الخيارات الإسرائيلية الثلاثة في مواجهة تبلور الإتفاق النووي

موقع قناة الميادين-

محمد جرادات:

معظم الجمهور الإسرائيلي يعارض الاتفاق النووي بغريزته، رغم عدم علمه بتفاصيله. هذا ما كتبته صحيفة “إسرائيل هيوم” اليمينية، وهو ما يعكس تركيبة الكيان العبري ومنطلقاته في التعامل مع الغير.

الحروب، مائدة بولتون التي يتغذّى عليها في سعيه لإقناع الطبقة السياسية في أميركا بأن مشكلة إيران ليست في برنامجها النووي، إنما في طبيعة النظام نفسه، في تعبير صارخ عن كامل الرؤية الإسرائيلية، وهي رؤية يتصدّر إشاعتها مستشار أميركيّ سابق يزعم تعرضه لمحاولة اغتيال إيرانية منذ فترة وجيزة، ويتم التكتم عليها بسبب ما يسميه “رؤية بايدن العمياء”.

بين رؤية بايدن العمياء ورؤية “تل أبيب”، ثمة خيط دقيق لا يلحظه بولتون في غمرة اشتهائه الدائم للدم وقرع طبول الحرب، وهو يرى إيران من زاوية الحقد الأعمى على نظامها الإسلامي الداعم للنهوض الشرقي في وجه الاستبداد الغربي ورأس حربته الربيبة الأميركية “إسرائيل”، لكن يوجد في واشنطن خبراء ومراكز أبحاث وجنرالات باتوا يعون أن محاولة احتواء انبعاث إيران، ولو نسبياً، وضمن مربعات محسوبة، أهون الشرّين في ظل ما باتت تمثله مع روسيا والصين كمثلث شرقي يمكنه التنغيص على خطط الغرب، وربما خلق ثنائية في وجه عالم متوحّد القطبية.

إن محاولة الاحتواء الأميركية للانبعاث الإيراني تعكس تطور فهم الولايات المتحدة لطبيعة التحديات العالمية أكثر من مجرد دفع خطر أمني وجودي عن ربيبتها “تل أبيب”، ولكن كيف تنظر الأخيرة إلى هذا التطور وهي ترى اتفاقاً نووياً آخذاً في التبلور في فيينا، يكفل لطهران انتعاشاً اقتصاديّاً وانفتاحاً عالمياً، مع ثباتها على رؤيتها الفكرية والسياسية ذاتها، بل والعقائدية أيضاً، في نفي شرعية وجود الكيان الإسرائيلي وتطوير برامجها الصاروخية!

تجد “تل أبيب” نفسها ملزمة، وفق تكوينها النفسي واعتيادها السياسي ومشروعها العسكري والأمني، بأن تتصدى لأدنى اتفاق غربي مع إيران، وتكاد الطبقة السياسية في الكيان العبري تجمع على ذلك، إلّا ما يصدر من مواقف متفرقة عن مراكز أبحاث وقيادات سابقة تعي حقيقة الخبث الأميركي ومآلاته واضطراره إلى الخطة (ب) في مواجهة النهوض الإيراني، بعد فشل سياسة ترامب في أقصى العقوبات وتصفير الصادرات.

ما السيناريوهات الكامنة في جعبة “إسرائيل” إزاء اتفاق يتم رسم حروفه الأخيرة بين عالمها الغربي الداعم الدائم لحروبها وسياساتها، وعدوها الأول وهاجسها الذي يقض مضاجعها، في وقتٍ لم يتبقَّ للتوقيع عليه إلا أسابيع قليلة، وربما أياماً وشيكة، وخصوصاً بعد فشل المراهنة الإسرائيلية على رفض إيران للمقترح الأوروبي؟

معظم الجمهور الإسرائيلي يعارض الاتفاق بغريزته، رغم عدم علمه بتفاصيله. هذا ما كتبته صحيفة “إسرائيل هيوم” اليمينية، وهو ما يعكس تركيبة الكيان العبري ومنطلقاته في التعامل مع الغير، فكيف والحال أنه يقف على عتبة انتخابات تتنافس فيها أضلاع اليمين المتطرف على المقعد الانتخابي الحاسم؟!

لعلّ هذا ما جعل الزعيم الاستيطاني للحكومة السابقة نفتالي بينيت يحتفظ بملفّ إيران غداة تسليمه رئاسة الحكومة لشريكه الليبرالي يائير لابيد، المقرّب إلى السياسة الأميركية، بما يؤكد ثبات الموقف الإسرائيلي ضد الاتفاق مع إيران، مهما تردَّد عن موقف مغاير لبعض قيادات الجيش والاستخبارات، في ظل دفع الموساد بشدة إلى إعاقة الاتفاق.

تقف السياسة الإسرائيلية الآن في نهاية خيارها الأول: مواجهة الاتفاق النووي، عبر محاولة إفشاله من خلال العمليات الأمنية، سواء في الاعتداء على إيران ونفوذها المتعاظم في سوريا، أو عبر العمل الأمني والسياسي داخل أميركا لتغيير أولوياتها.

وليس مستبعداً أن تكون المحاولة المزعومة لاغتيال بولتون واحدة منها، ما دامت مجرد محاولة لم تتكلّل بالنجاح، وخصوصاً ما فاح حولها على لسان بولتون نفسه، بما يشيع جوّاً إيرانياً وأميركياً يدفع أولوياتهما بعيداً عن العودة إلى الاتفاق، ولكن يبدو أن هذا الخيار يقترب إلى الفشل النهائي، وهو ما يتطلب اللجوء إلى خيار آخر.

هذا الخيار يتمثل بالحرب أو الاشتراط، وهما خياران مفخخان، فاللجوء إلى الحرب الإسرائيلية ضد إيران لا يبدو خياراً واقعياً في هذه الظروف، والكيان يرى ذاته عاجزاً عن القضاء على مقاومة فصيل واحد كالجهاد الإسلامي في غزة، ليترجّح خيار وضع مزيد من الاشتراط الإسرائيلي، وهي شروط ليست بالضرورة على إيران، رغم أنَّ الكيان كان، وما زال، الحاضر الغائب خلال جولات التفاوض، وهو ما تجاهلته إيران بكل عناد عقائدي ووفاء مقاوم، باعتبار “إسرائيل” كياناً غير شرعيّ في الأبجديّة الإيرانية وخارج أدنى اشتراط.

في ظل العجز الإسرائيلي عن خوض حرب شاملة ضد إيران استباقاً للاتفاق النووي، وإن بقي للحماقة الإسرائيلية احتمال قليل في ذلك، فإنَّ لجوء “إسرائيل” إلى هجمات غير مسبوقة ضد إيران وارد جداً في هذه الأيام، لكونها تراهن على أولوية العودة إلى الاتفاق إيرانياً، وإن كان ذلك ضمن حدود الصبر الاستراتيجي في العقل الإيراني، فهل بإمكان الإسرائيلي أن يحسبها بدقة للخروج بأفضل النتائج، سواء بدفع إيران إلى إدارة الظهر لأولوية الاتفاق، أو دفع الميدان نحو الدحرجة وفق نهايات إسرائيلية محسوبة؟

يأتي اتصال غانتس بنظيره الأميركي، بعد فشل الرهانات الإسرائيلية، ليؤكد انسداد الأفق الإسرائيلي، وتصدّر الاتصال إجراءات منع إيران من الحصول على السلاح النووي، وهو ما ينبئ بيأس إسرائيلي تام، ربما يدفع “إسرائيل” إلى الدخول في معترك الاشتراط كخيار أخير، وهو هنا مزيد من الشروط الإسرائيلية الاقتصادية والأمنية على الأميركي ذاته، في مقابل رفض إسرائيلي هادئ للاتفاق، بما يؤسس في النهاية لموازين جديدة في الميدان الشرق أوسطي، ليجد الكيان العبري نفسه في تراجع خطوة حادة إلى الخلف، وهو ما يدفع المشهد نحو تأزمات ميدانية متواصلة لن يساعد فيها الاتفاق النووي على احتواء النفوذ الإيراني وفق المخطط الأميركي، وهو ما يجعل الإسرائيلي يقلع شوكه بنفسه، مهما وفّرت له منظومة التطبيع التركي والخليجي والعربي من مسارات استقرار وتفوق.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.