«العلّيق البري» من «عدو» للمزارعين إلى منتج لثمار مفيدة ومجدية

السفير اللبنانية:
انور عقل ضو

كثيرون يصنّفون «العليّق» على أنه «آفة» زراعية لما له من قدرة على استنبات نفسه والــ«تطاول» على البساتين والأراضي الزراعية، وينسون أو يتناسون أن الإنسان في مسار تطوره إلى مجتمع زراعي هو من «تطاول» على «العليّق» وبيئته الطبيعية، حتى أصبح العدو الأول للمزارعين!
تمتد فروع العليق مسـافات طويلة، وما تلبث أن تتحول جذوراً تستنبت فروعاً جديـدة، فيتحول «العليّق» إلى أكمة يصعـب الوصـول إليها بسهولة، وهــي في نمــوها المضــطرد تمتـد إلى بساتين التـفاح والأشجار المثمرة والأراضي الزراعية المستصلحة… الخ
في الماضي كان المزارعون يلجأون إلى اجتــثاث العليق بمناجل متصلة بعصي طويلة تتيح إمكانية الوصول إليه واقتلاعه، لكن عناء المزارعــين مع «العليّق» وظّفته شركات الأدوية الزراعيــة في تســويق أنواع كثيرة من الأدوية لحـرق هذه النــبتة من دون عناء اجتثاثها بالأيدي، بالرغم من أن هذه الأدوية كانت تؤثر على الإنتـاج الزراعي، ذلك أن نتائجها السلبية كثيرة وأهمها القضاء على الحشرات النافعة.
وما يثير المخاوف حسب المهندســة الزراعيـة جنان أبو سعيد أن «أحدا لا يستخدم المبـيدات العشــبية التي تقضي على الأعشاب الضارة ولا تؤثر على المحاصيل الزراعية والتي تعرف بالمبيدات العضوية لارتفاع ثمنها»، مشيرة إلى أن «المبيدات المستـخدمة علـى نطــاق واســع هي التي تحتوي على مــواد سامة ولها تأثير مباشر على النحل والنظم الأيكولوجية».
مع العلم، بحسب ابو سعيد «إن الضرر الناجم عن استخدام هذه المبيدات أكثر بما لا يقاس من نبات العليّق، اذا افترضنا أن العلـيّق هو آفة زراعــية، لأن هذه النبتة تعتـبر حاضـنة لأنواع من الحــشرات المفيدة القادرة على مكافحة بعض الآفات الزراعية، ويمكن ان نتعاطى معها بتشذيبها ومنع تمددها الى الأراضي الزراعية»، وأشارت إلى أن «المزارعين لا يعـرفون أن القضاء على العلــيق باستخــدام المبيدات يساهم في ارتفاع فاتورة الإنتاج من خلال اضطرارهم الى استخدام أنواع كثيرة من المبيدات الزراعية».

ثروة وإنتاج زراعي

غالباً ما يسلّط الضوء على العليق كنبتة متطفلة و«ضارة»، لكنه في الآونة الأخيرة أصبح موضع إقبال بعض المزارعين وعدد من أبناء المتن الأعلى ممن يعانون تبعات الواقع الاقتصادي والمعيشي، فوجدوا في ثمار «العليّق» نوعاً من الفاكهة يمكن تسويقه، خصوصاً أن إقبال المواطنين على شراء هذه الثمار الصغيرة كان مشجعاً، ما دفع المواطنين إلى ارتياد الحقول، وتحمل عناء قطافها رغم الأشواك الكثيرة التي غالباً ما تجعل الوصول إلى الثمار صعباً. لكن لا ضير من أن تدمى الأيادي، طالما أن سعر الكيلو الواحد يساوي خمسة آلاف ليرة، ويصل إلى المستهلك بسعر يتراوح بين ثمانية عشرة وعشرين الف ليرة، من دون أن يتكبد المواطنون والمزارعون أكلاف الإنتاج من حراثة ورش مبيدات وأسمدة وري… الخ
فالـ«عليّق» ينبت في أراض مشاعية والحصول على ثماره متاح للجميع، فضلاً عن أن ثماره البرية الأصغر حجماً من ثمار التوت، تعتبر أطيب منه مذاقاً، لكن أحداً لم يكن يعير هذه الثمار اهتماماً، بالرغم من أن بعض الدول الأوروبية تعمد إلى زراعة نوع من ثمار «العليّق» المخلّق بطرق علمية جعلت ثماره أكبر حجماً وأغصانه من دون أشواك.
بعض المزارعين استقدموا أغراساً منه من الخارج، لكن الإقبال على ثمار «العليّق» البري يظل أكبر، لمذاقه السكري الحاد عندما تنضج الثمار لتصبح سوداء داكنة، أو يكون مائلاً إلى الحموضة عندما تكون الثمار حمراء في طور النضوج.
وتجدر الاشارة أن بعض دول الغرب تستفيد من»العليّق» البري وتصدّره لنا كنوع من الفاكهة، كثيراً ما نراه في عبوات صغيرة من الزجاج على رفوف المحال والسوبر ماركت.
قبل نحو سنتين، عمد بعض المواطنين إلى بيع ثمار «العليّق» إلى المصطافين، ولم يكن أحد يعلم أن هذه الخطوة ستفتح المجال أمام تسويق هذه الفاكهة البرية على نطاق واسع. تعدى جمهور المصــطافين الخلـيجيين إلى المصطافين اللبنانيين الذين أقــبلوا على شرائها، ذلك أن كثيرين يروا في ثمار «العليّق» البري نوعاً من الغذاء الضروري المفيد للصـحة، فضلاً عن أنها غير ملوثة بالكيماويات من أدوية أو أسمدة… حتى أن بعض المواطنين في القرى الجبلية عادوا ليستخدموا جذور وأغصان العليّق في مجال الطب الشعبي.

غذاء مهم للنحل

المزارع إيلي صليبا أشار إلى «أن موسم العليق هو في ذروته الآن، خصوصا في المناطق التي تعلو أكثر من 1200 متر عن سطح البحر»، وأشار إلى أنه يعتني «بالعليق منذ خمسة عشر عاماً، ليس بسبب ثماره وحسب، وإنما لكون أزهار الثمار قبل النضوج تعتبر غذاء مهماً للنحل، والعسل الذي ينتج منه يعتبر من أجود أنواع العسل كمذاق وقيمة غذائية»، وأضاف: «بدأ الناس يعودون إلى ثمار العليّق لتحصيل الرزق خصوصاً أن المواسم الزراعية كالتفاح والفاكهة إلى تراجع عامٍ بعد عام، في ظل إقبال الناس على شراء الثمار من دون عناء قطافها، وعدا ذلك، هناك مواطنون يستخدمون الأغصان الطرية للعليق مع بداية الربيع لمعالجة الرمل والحصى في الكلى، كما يتم استخدام جذور العليق وأغصانه كنوع من «الزهورات» لمعالجة الرشح والنزلات الصدرية، وهي تعتبر علاجاً ناجعاً ومجرباً.

سياج وإنتاج

كما تعتبر أرضنا ملائمة لنمو العليق بسبب تربتها الرملية، والآن بدأ بعض المزارعين في المتن الأعلى الاستفادة من ثمار العليق، وهم يعمدون بدلاً من حرقها بالأدوية إلى تشذيبها، ومعاملتها لتصبح بمثابة أسيجة للجنائن والاستفادة من إنتاجها، وفي بلدة جوار الحوز عمد بعض الأهالي والمزارعين إلى استقدام عمال لقطاف الثمار وبيعها أو استهلاكها كفاكهة واستخدام الناضج منها لصنع المربيات.
ويتذكر المزراع نجيب شمعون: «كنا نبيع كبوش العليق في المصايف وخصوصاً في بلدة فالوغا التي كان يؤمها مصطافون من العراق وسوريا والكويت في الخمسينيات من القرن الماضي»، ولفــت إلى أنه لا يعرف سبب عدم الاهتمام بهذه الثمار بعد هذه الفترة، «كل ما نعرفه أن هناك عودة لاستثمار هذه الفاكهة البرية التي تلقى اهتماماً كبيراً خلافاً لأنواع كثيرة من الفاكهة البرية كالزعرور والبرقوق والإجاص البري وغيرها».

التعريف العلمي

يعرف نبات العليّق علمياً باسم Rubusfiuticosus وهو معروف قديما منذ الإغريق والفراعنة. ويذكر المهندس الزراعي ايمن زين الدين ان الطبيب الأغريقي دسقوريدس قد أوصى في القرن الميلادي الأول بالعليق الناضج في سائل غرغرة لمعالجة التهابات الحلق وفي الطب الشعبي الأوروبي استخدمت أوراق العليق لغسل الجروح، أما ابن سينا فيقول «طبيخ أوراقه بأغصانه يصبغ الشعر، ينفع في القروح على الرأس ويدمل الجراحات واذا مضغت اوراقه سدت اللثة وابرأت القلاع وكذلك ثمرته الناضجة وعصارة ثمرته وورقته تبرئ أوجاع الفم الحارة».
ولفت زين الدين إلى أن «هناك عودة للمعالجة بالعليق زهرا واغصانا وجذورا، فضلا عن معرفة فوائد ثماره الغنية بالفيتامينات والمعادن»، واشار إلى أن «موجبات التطور وكثرة الأمراض دفعت المواطنين للعودة الى الطبيعة، حتى أننا نرى مواطنين وسياح يقبلون بأنفسهم على قطف ثمار العليق».
تبقى ثمة مشكلة وهي غياب الإرشاد والتوجيه الزراعي، وترك المزارع لقمة سائغة لمفاهيم السوق الاستهلاكي وجشع شركات الأدوية، بحيث يمـكن تحويل العليق من نقمة الى نعــمة يمكن الافادة من ثماره واستخدامه نوعا من الاسيجة من خلال تشذيبه والعناية به، أخذا في الاعتبار النتائج السلبية لرش المبيدات الحارقة المضرة بثروة لبنان من النـحل، والمهددة للتوازن البيئي القادر على التجدد ومقاومة الأضرار التي تطاول المواسم الزراعية، فضــلا عن إمكانية اقامة مشاريع إنتاجية من خلال اعتماد العليق كزراعة مستقلة، والإفادة من تجارب الغرب في هذا المجال.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.