المصالح الجيوإستراتيجية للولايات المتحدة من عدوان إسرائيل على غزة

صحيفة الوطن السورية-

محمد نادر العمري:

صحيح أن أبرز ما تتصف به معالم ومحددات السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأميركية ولاسيما في منطقة الشرق الأوسط، هو الحفاظ على مبدئية الدعم المغدق للكيان الإسرائيلي على مستوى المنطقة من خلال ثلاث نقاط رئيسية تتعلق بمبدئية «التفوق الأمني» و«التفوق الاقتصادي» و«إعلاء الحماية المطلقة وتحقيق المصالح»، إذ إن هذه المبادئ التي اتسمت بها محددات السياسية الخارجية الأميركية تجاه الكيان منذ بداية الخمسينيات من القرن الماضي، وبشكل أكثر تحديداً مع اكتمال انتقال مركز الثقل الدولي من القارة الأوروبية إلى الولايات المتحدة بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، شملت حالتي الحرب والاعتداءات التي كانت تشنها الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة وخاصة في مرحلة ما بعد تكريس هذا الكيان، إلى جانب حالة التفاوض التي كان يديرها المفاوض الإسرائيلي من موقف المنتصر والمدعوم أميركيا، ولعل التعهد الذي قدمه كل من وزيري الخارجية الأميركية السابقين هنري كسنجر وجيمس بيكر خير دليل على التزام مراكز ومؤسسات صنع القرار في الولايات المتحدة الأميركية على تحقيق المصالح الإسرائيلية في أي مفاوضات سياسية تتعلق بعمليات السلام التي رعتها الولايات المتحدة بشكل مباشر وغير مباشر.

محددات السياسة الخارجية الأميركية تجاه الكيان الإسرائيلي، هي ليست مجرد محددات يفرضها الواجب أو أي شيء آخر، بل هي محددات تفرضها المصالح الحيوية والجيوإستراتيجية للولايات المتحدة الأميركية في منطقة الشرق الأوسط والنظام الدولي على حد سواء، وهو ما يفسر الدعم المطلق الذي قدمته الولايات المتحدة الأميركية إلى الكيان المحتل في عدوانه المستمر والمفتوح منذ ما يزيد على شهر ونصف الشهر على قطاع غزة، وتمثل هذا الدعم في المجالات الآتية:

أولاً- المجال السياسي الذي يمكن ملاحظته في مسارين، الأول: الزيارات الدبلوماسية والعسكرية الأميركية للأراضي المحتلة تضامناً مع هذا الكيان، كان أبرزها زيارة الرئيس الأميركي جو بايدن ووزير خارجيته بشكل منفصل وحضورهما اجتماعات مجلس الحرب، أما المسار الثاني فقد تمثل في الجهود السياسية داخل المنظمات الدولية وخاصة داخل مجلس الأمن وخلال اللقاءات السياسية والاتصالات الدبلوماسية للمسؤولين الأميركيين لتبرير استمرار العدوان الإسرائيلي ومنع أي جهود رادعة لهذا العدوان أو الحد منه.

ثانياً- المجال العسكري وتجلى أيضاً في صورتين، الصورة الأولى اتخذت شكل إرسال الولايات المتحدة قوات جوية وبحرية وبرية ودفاعية إضافية للمنطقة بهدف منع أي تصعيد محتمل ضد الكيان، أما الصورة الثانية فتمثلت في الجسر الجوي الواصل من واشنطن إلى تل أبيب لإرسال ما يحتاجه الكيان من أدوات عسكرية مختلفة.

ثالثاً- المجال الإعلامي والدعائي، إذ يلاحظ أن معظم الروايات الإسرائيلية تم تبنيها والترويج لها من الإدارة الأميركية ومسؤوليها، وهذا ما تمثل في محاول «تدعيش حركات المقاومة» وتكذيب رواية وزارة الصحة الفلسطينية فيما يتعلق بعدد الضحايا والشهداء، إلى جانب التأكيد الأميركي للرواية الإسرائيلية فيما يخص استخدام المقاومة للمشافي واتخاذها مقراً لقيادتها وعملياتها وغير ذلك.

هذه المجالات إلى جانب الدعم المالي الذي يقدم من الإدارة الأميركية للكيان الإسرائيلي لاستمرار عدوانه على قطاع غزة، تجعلنا أمام مقاربة مفادها: «إن الدعم الأميركي لإسرائيل هو لتحقيق المصالح الجيوإستراتيجية (الأميركية) في المنطقة والعالم» وهناك العديد من هذه المصالح التي تريد واشنطن تحقيقها من خلال عدوان غزة، أهمها:

أولاً- تعويم الكيان الإسرائيلي على مستوى المنطقة ولاسيما بعد الإخفاق الأميركي من استكمال مشروع اتفاقات «إبراهام» في جذب باقي الدول للانضمام إليها في الإطار السياسي، لذلك يمكن ملاحظة الرؤية الإسرائيلية- الأميركية الساعية لتصفية القضية الفلسطينية من خلال استهداف آخر معاقل المقاومة الفلسطينية الفاعلة في الأراضي المحتلة، وهو ما يفسر الخطاب الأميركي عن ضرورة تطبيق ما يسمى حل الدولتين بعد القضاء على المقاومة في غزة، بمعنى آخر أن القضاء على المقاومة في غزة يساعد الجانب الأميركي على إنشاء كيان فلسطيني ضعيف وهش ومتشرذم يندفع نحو عملية سلام تساهم في انضمام باقي الدول لها.

ثانياً- بعد إخفاق الإستراتيجيات الأميركية المتعاقبة منذ عام 2008، من احتواء النفوذين الروسي في شرق أوروبا، والصيني في جنوب شرق آسيا، يبدو أن العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، شكل فرصة أميركية لاحتواء هذين النفوذين في الشرق الأوسط، والحد من تأثيرهما، وخاصة بعد الدور البارز لروسيا الاتحادية بالشراكة مع بعض دول المنطقة في مواجهة مشروع انتشار الإرهاب، والقدرة التي أفرزتها الدبلوماسية الصينية في حل النزاعات والصراعات المعقدة في الشرق الأوسط مثل الصراع السعودي – الإيراني.

ثالثاً- احتواء مشروع الحزام والطريق وإفراغ مضامينه وفاعليته الدولية، وفرض مشروع «الممر الهندي- الأوروبي» كمشروع بديل وجاذب وخالٍ من أي تحديات أو عراقيل أمنية أو عسكرية أو اقتصادية، التي تشكل المقاومة واستمرار الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي أبرز تعبيراتها، ولابد من القضاء عليها «وفق المنظورين الإسرائيلي – الأميركي» لتحقيق ذلك، بالتوازي مع إعادة طرح مشروع قناة «بن غوريون» لربط البحر الأحمر مع البحر المتوسط بإدارة إسرائيلية للتحكم بعقدة الممرات الدولية فيما يتعلق بالتجارة والطاقة وغيرها.

رابعاً- التوجه الأميركي نحو الهيمنة على مصادر الطاقة المكتشفة في المتوسط، وخاصة في ظل ما تعانيه الأسواق الغربية والدولية من عطش لهذه الموارد بعد تفاقم الأزمة الأوكرانية وتداعياتها الكارثية في هذا المجال، إذ تسعى واشنطن من خلال إعادة تموضع قواتها البحرية في البحر المتوسط إلى خلق مخاوف للشركات النفطية الدولية «المنقبة والمنتجة للنفط»، وهو ما سيساعد تل أبيب وواشنطن بشكل غير مباشر على منع أي دولة من الاستفادة من مصادر الطاقة في المتوسط سوى الكيان الإسرائيلي.

صحيح أن الرئيس الأميركي جو بايدن وفريق إدارته الانتخابية سعيا لاستثمار واقع العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة بعد عملية طوفان الأقصى لاستقدام عطف ودعم اللوبي الصهيوني لمصلحة مرشح الديمقراطيين جو بايدن، إلا أن الفضائح المتتالية لرئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو والرئيس بايدن، وفشل قوات الاحتلال من تحقيق إنجاز ميداني، وفقدان التأثير في إدارة الرأي العام الدولي نتيجة التحول في استقدام الأخبار من وسائل التواصل الاجتماعي وخاصة من قبل الفئة الشابة، هو ما افقد وسائل الإعلام الكلاسيكية تأثيرها، وفشل الضغوط الأميركية لتحقيق مآرب إسرائيل سياسياً، وتزايد عدد المجازر المرتكبة تجاه الغزاويين واتساع رقع التظاهرات الدولية، كل تلك التطورات شكلت عوامل ضغط على الإدارة الأميركية التي بدأت تغيير بعض تصريحاتها من دون التخلي عن مطلب الكيان المتعلقة برفض وقف إطلاق النار.

المشهد السياسي داخل الولايات المتحدة الأميركية بات يشهد انقساماً بين مؤسسات الدولة العميقة والجماعات والشخصيات الداعمة للكيان، وبين بعض المسؤولين الذين باتوا يدركون خطورة التداعيات الناجمة عن الدعم المفرط لها، سواء فيما يتعلق بتراجع شعبية الرئيس بايدن لما يقارب 40 بالمئة فقط، أو فيما يتعلق بالتهديدات المتنامية لمصالح واشنطن الحيوية في المنطقة.

المقاربة الأميركية الساعية لاستثمار عملية طوفان الأقصى لتحقيق مصالح جيوإستراتيجية، باتت بحاجة اليوم لعدم خسارة مصالحها القائمة، إلى جانب ما تلقاه رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو لصفعات متتالية، تمثلت أبرزها:

1- فشل جهود نتنياهو ومساعيه في تدويل قضية السفينة التي استطاعت القوات البحرية اليمنية من احتجازها في أعماق البحر الأحمر.

2- الرسالة التي حملها كبير مستشاري الرئيس الأميركي عاموس هوكشتاين لحكومة الحرب في إسرائيل، مفادها بأن «واشنطن غير معنية بأي تصعيد بين إسرائيل ولبنان»، والضغوط التي مارسها لقبول تل أبيب باتفاق تبادل الأسرى مع الفصائل الفلسطينية يتخللها هدنة مؤقتة وإدخال المساعدات بما في ذلك الوقود.

3- الصفعة الأكثر إيلاماً كانت موجهة من قطاع غزة، من خلال إطلاق صليات كثيفة من الصواريخ طالت تل أبيب التي تبعد عن غزة بمقدار 80_90كم، وهذه الصفعة تحمل أبعاداً عدة من أهمها، أنه بعد مرور ما يقارب شهر ونصف الشهر من بدء العدوان على قطاع غزة مازالت الفصائل قادرة على إطلاق صواريخ وبمسافات بعيدة، وهو ما يفند الانجازات الوهمية التي كان نتنياهو وجيشه يدعي إنجازها، بدعم من الإدارة الأميركية الساعية لتحقيق مصالحها الجيوإستراتيجية على حساب دماء الشعب الفلسطيني.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.