المظاهر التي سبقت الحرب العالميّة الثانية تتكرّر

14e2a5de-7bea-4249-b573-4fd3e71a44d7
انعدام الاستقرار مستشرٍ في جميع أنحاء أوراسيا اليوم بشكل لم يشهده العالم منذ السنوات التي سبقت الحرب العالميّة الثانية.

يعيش ما يقارب 5 مليار شخص من أصل سكّان العالم الـ 7.4 مليار في أوراسيا. وتُعدّ أوراسيا المنطقة الحيويّة للإنسانيّة، ولطالما كانت مكانًا مضطربًا، إلّا أنّه خلال السنوات القليلة الماضية أخذت الاضرابات شكلًا جديدًا وأكثر خطورة.
فقد تزعزع استقرار مناطق عدّة في أوراسيا، وبدأت هذه المناطق تتفاعل مع بعضها البعض. وكانت المرّة الأخيرة التي شهدنا فيها أحداثاً كهذه قبل الحرب العالميّة الثانية.
ولا يعني ذلك بالضرورة أنّنا نتجه نحو حربٍ أوراسيّة، بل يعني أنّنا دخلنا مرحلة تاريخيّة جديدة تحمل مخاطر متزايدة بشكلٍ كبير.
وكحدٍ أدنى، نحن ندخل مرحلة يتغيّر فيها النظام العالمي بشكلٍ جوهري، فعندما تتعرّض المنطقة الحيويّة للإنسانيّة لضغط شديد، تتغيّر الإنسانيّة برمّتها.
ويعاني حالياً الشرق الأوسط وأوروبا وروسيا والصين من قلّة الاستقرار. وهي تعود في أوروبا لأسباب اقتصاديّة واجتماعيّة ومؤسساتيّة، أمّا في روسيا فلأسباب اقتصاديّة واستراتيجيّة.
بينما قلّة الاستقرار في الصين ذات طابع اقتصادي واجتماعي، أمّا في الشرق الأوسط فثقافي وعسكري.
وما يحدث في الصين مختلفٌ عمّا يحدث في الشرق الأوسط، غير أنّ كلاهما يعاني تغيّرات لا يمكن السيطرة عليها ولا وقفها.
وبينما يغرق الشرق الأوسط في الحروب أكثر فأكثر، تتجه الصين نحو الدكتاتوريّة أكثر فأكثر. لكنّ ما يعانيه الطرفان هو المشكلة ذاتها، وهي انعدام الاستقرار.
وأدّى انعدام الاستقرار الذي سبق الحرب العالميّة الثانية إلى اندلاع حرب شاملة، أمّا انعدام الاستقرار الذي نشهده اليوم، فقد يزول أو يبقى. وقد يتحوّل إلى مجموعة متشابكة من انعدامات الاستقرار، أو قد يتصاعد ليغدو حربًا، ويجب ألّا نستبعد الاحتمال الأخير أبدًا.

قبل الحرب العالميّة الثانية

تعود أسباب الحرب العالميّة الثانية لما قبل الحرب العالميّة الأولى. وفي الواقع، علينا النظر إلى الحربين، كما قيل سابقًا، كحرب واحدة تخلّلتها فترة هدنة.
فببساطة، استكملت الحرب العالميّة الثانية الحرب العالميّة الأولى واتسعت بها لتشمل باقي أوراسيا. وأسباب الحرب العالميّة الثانية ثلاثة، أوّلها ظهور مجموعة قوى جديدة أرادت تغيير النظام العالمي، وهي ألمانيا واليابان والولايات المتحدة، مع الإشارة إلى أنّ أيّاً منها لم تكن قوّةً بارزةً في القرن التاسع عشر.
لكن بحلول العام 1914، كانت الولايات المتحدة وألمانيا قد غيّرت نظام العالم الاقتصادي، وبدأت تسعى وراء إعادة هيكلة النظام العالمي، لا سيّما تغيير شكل الإمبراطوريتين البريطانيّة والفرنسيّة.
وبعد الحرب العالميّة الأولى، تعافت ألمانيا من هزيمتها وظهرت اليابان كقوّة ممتازة، واستمرّت الولايات المتحدة في القلق من القوى القائمة وتلك الجديدة.
والسبب الثاني هو العواقب الاقتصاديّة للحرب العالميّة الأولى، التي أدّت إلى اضطراب اقتصادي هائل ناجم من انهيار ألمانيا والتكاليف البشريّة والاقتصاديّة التي منيت بها فرنسا وبريطانيا جرّاء الحرب.
وتفاقم هذا الاضطراب الاقتصادي لأنّ ألمانيا لم تعد قادرة على الاستيراد والتصدير بعدما كانت قوّة تجاريّة عظمى.
وبدأت روسيا ثورةً زادت من اضطراب الحياة الاقتصاديّة وشرّعت الأبواب أمام حركات سياسيّة تحدّ من الاستقرار، والشعوب التي نجت من مذبحة الحرب العالميّة الأولى، وقعت في شرك الفشل الاقتصادي، وأمّا الأنظمة السائدة فلقيت معارضةً من الأحزاب المتطرّفة.
وكان ذلك جارٍ في الصين واليابان والهند أيضاً.وأمّا السبب الثالث فهو منبثق عن أوّل سببين. فقد ولّدت الحرب العالميّة الأولى قلّة ثقة مريرة بين الدول الأوروبيّة. ونتج عن انهيار إمارة هوهنتسولرن وإمبراطوريّة هابسبورغ وتلك العثمانيّة وسقوط آل رومانوف عددًا كبيراً من الدول المستقلة حديثًا، ولم تثق أيٌّ منها بالأخرى. ولم تكن سياسات هذه الدول الخارجيّة متوقعة أبدًا.
وبالإضافة إلى ما سبق، زاد التدهور الاقتصادي العالمي الذي تلا الحرب العالميّة الأولى من النزعة القوميّة لدى جميع البلاد بناءً على افتراض كل ينجو بنفسه، وتجلّت النزعة القوميّة بأشكال مختلفة، من القوميّة الفرنسيّة الخاملة إلى الألمانيّة العنيفة. فأدّى الخلل الاقتصادي والتوتّرات الدوليّة إلى تقسيم النظام الأوروبي وجعله أكثر تشدّداً.
وكان الموقع الأميركي الأهم. ففي العام 1929، طغى على الولايات المتحدة كسادًا حادًا أثّر على نظامها السياسي، إلّا أنّه لم يطح به.
وخلافاً للاعتقاد السائد، لم تكن الولايات المتحدة انعزاليّة، بل ببساطة سعت للحؤول دون حرب أوروبيّة، فقد كانت منخرطة كثيراً في شرقي آسيا سياسياً وعسكرياً.
واستطاعت الولايات المتحدة من خلال الحدّ من الاضطرابات الداخليّة وبفضل المسافة التي تفصلها عن أوراسيا أن تحتلّ موقعاً يخوّلها عدم التدخّل فيها إلّا إذا استدعى ولغاية أن يستدعي الأمر، وفي هذه الأثناء، سعت الولايات المتحدة جاهدة لأن تعيد بناء اقتصادها.
وتدمّرت أوروبا اقتصادياً خلال العقد الذي سبق اندلاع الحرب. ومرّت روسيا بفترة تحوّل من الزراعة إلى الصناعة بشكلٍ قسري، واتّسمت بممارسة قمعٍ وحشي.
أمّا الشرق الأوسط، فخضع لسيطرة بريطانيا واعتبر البعض ألمانيا حلاً. بينما غاصت الصين في أوحال حكم أمراء الحروب والحرب الأهليّة، وما زاد الطين بلّة اندلاع حرب بينها وبين اليابان.
أمّا في اليابان، فازداد التحوّل من الزراعة إلى الصناعة بشكلٍ كبير، لكن غدا النظام السياسي فيها متشدّداً بعد ظهور أيديولوجيا الدولة العسكريّة، وبعد أن بات للجيش الياباني تأثيرٌ سياسي.
وأخذت هذه الأزمات تتّصل مع بعضها البعض. فقام السوفييت بزعزعة استقرار أوروبا أيديولوجيًا وسياسيًا، بينما تدخّل الأميركيّون والأوروبيّون في الصين. أمّا الولايات المتحدة واليابان، فتنافستا اقتصادياً، وجهّزتا لحرب ضدّ بعضهما البعض.

أوراسيا اليوم

تاريخياً، ما من شيء يتكرّر كما حدث سابقاً، إلّا أنّ الاتجاهات العامّة قد تتشابه.
تحتلّ الولايات المتحدة اليوم صميم المؤسسة الحاكمة الدوليّة. وتظهر قوى جديدة لتحدّي العالم الذي بنته الولايات المتحدة بعد الحرب العالميّة الثانية.
وبرزت الصين كقوّة اقتصاديّة عظمى وقوّة عسكريّة ناشئة. وبعد أن انهارت روسيا في نهاية الحرب الباردة، عادت إلى الصورة كقوّة ناشئة تسعى لتغيير النظام العالمي.
كذلك تسعى أجزاءٌ من العالم الإسلامي لإعادة هيكلة النظام العالمي، أولاً من خلال إنشاء نظام إسلامي متماسك في الشرق الأوسط وثانياً عبر جعل الكيان الإسلامي يشكّل تحدياً أكبر.
وأدّت الأزمة الماليّة في العام 2008 إلى انعدام استقرار شامل طال مختلف أنحاء العالم. وتأثّرت جميع البلدان المصدرة من جرّاء تقلّص الاقتصاد العالمي بسبب الأزمة الماليّة وبسبب الفشل في استئناف النمو الاقتصادي القوي.
وكانت الصين أكثر الدول تأثراً لأنّها الأكثر اعتماداً على الصادرات. وأدّت الأزمة الاقتصاديّة الصينيّة إلى انخفاض الطلب على السلع الصناعيّة، ولا سيما النفط، مّا أدّى إلى انهيار أسعار السلع الذي أثّر على روسيا والسعوديّة بشكل خاص.
وبذلك تزعزع الاستقرار في الشرق الأوسط أكثر. وأثرّت الأزمة الماليّة كثيراً على أوروبا على وجه التحديد، واضطر الاتحاد الأوروبي أنّ يوفّق بين مصالح بلاد جنوب أوروبا ومصالح ألمانيا. ووقعت بعض مناطق أوروبا في براثن الكساد، بينما حافظت مناطق أخرى على اقتصاد جيّد إلى حدٍ ما.
وبدأت الروابط الاجتماعيّة والسياسيّة تتفكّك بفعل الضغط الاقتصادي. ففي أوروبا، دفع اختلاف المصالح الاقتصاديّة كلّ بلدٍ أن يظهر نزعة قوميّة.
كذلك جعل مكان التوصّل إلى قرارات بشأن مسائل كالهجرة الناس يدركون أنّ الاتحاد الأوروبي يسلب السيادة من الدول. ولم يشكّل ذلك مشكلة عندما لم يؤثّر في شيء بشكلٍ فعلي، لكنّه بات مشكلة عندما يفرض تنفيذ سياسة الهجرة وفقًا لبروكسل وليس لبودابست أو وارسو.
ولذلك ازدادت الأحزاب القوميّة المناهضة للهجرة.واجتمعت المشاكل الاقتصاديّة مع تلك الاستراتيجيّة في روسيا لتزيد من قوّة الدولة ومن استخدام القوّة العسكريّة.
أمّا في الصين، ففُرضت ديكتاتوريّة، كذلك يتم تطبيق عمليّة تطهير واسعة النطاق لإخافة أيّ عدو محتمل للنظام. وأدّت المناورات البحريّة في بحري الصين الشرقي والجنوبي إلى دخول جنوب شرق آسيا في مواجهات مع الصين.
وعلى صعيد الشرق الأوسط، قلّت قدرة السعوديّة على إدارة المجموعات الجهاديّة من خلال الحوافز الماليّة، مع الإشارة إلى أنّ هذه المجموعات من شأنها زعزعة استقرار المنطقة.
وبالتالي، اشتدّت الحروب في المنطقة، وحاليًا بدأت هذه الأزمات الإقليميّة تتفاعل مع بعضها البعض. فنتج من الصراع في الشرق الأوسط تدفّقًا هائلًا من المهاجرين إلى أوروبا.
وأشار المفوّض السامي للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين أنّه منذ مطلع العام 2014 قد دخل أوروبا ما يفوق المليوني لاجئ ومهاجر. كذلك شهدت أوروبا هجمات جهاديّة عدّة، ونشرت بلادٌ أوروبيّة كفرنسا وألمانيا بعض القوّات في الشرق الأوسط.
وروسيا أيضًا منخرطة في الشرق الأوسط، مع استمرارها في الوقت نفسه بدعم القوى المناهضة للغرب في أوكرانيا. كذلك أجرت مناورات قرب دول البلطيق بينما تقوم طائراتها بدوريّات فوق المحيط الأطلسي والبحر الأبيض المتوسّط.
وتردّد صدى الأزمة الاقتصاديّة الصينيّة في جميع أنحاء أوراسيا. فبعد أن وصل احتياط النقد الأجنبي في الصين إلى 4 ترليون دولار في حزيران/ يونيو 2014، انخفض ليبلغ 3.2 ترليون دولار، وهو الاحتياط الأدنى منذ العام 2011. وفي الوقت نفسه، واجهت الصين اليابان وتايوان والفلبين وفيتنام وأندونيسيا مُطالبةً بالسيادة على معظم بحري الصين الشرقي والجنوبي.
ولغاية الآن، تتفادى منطقتان من أوراسيا التدخّل في ما يحدث. وأوّلهما الهند المحصّنة بجبال الهيمالايا من الشمال وبالغابات من الشرق.
ولم تنخرط الهند بأزمات الدول المحيطة، ولم تعاني أزمةً داخليّة غير اعتياديّة.والمنطقة الثانية هي آسيا الوسطى التي لم تنخرط بهذه الأزمات بشكلٍ كامل.
لكنّها في صدد الدخول في أزمة، وهي في الأغلب بسبب انهيار أسعار النفط، الذي أضعف حكومات آسيا الوسطى وولّد عنفاً إقليمياً.
وزادت ضغوط انخفاض عائدات النفط من النفوذ الروسي في المنطقة، ومن المصالح الصينيّة، ومن نشاطات المجموعات الجهاديّة. وثمّة الكثير من المؤشرات إلى أنّها تتجه نحوى زعزعة استقرار آسيا الوسطى أيضًا.
وبالتالي، تفتقر المنطقة كلّها إلى الاستقرار، وذلك باستثناء الهند التي كانت مشاركتها بسيطة جدًا في أحداث الحرب العالميّة الثانية، وفي الأحداث التي سبقتها. ولا بدّ لنا من التمعّن بالنظر إلى كلّ دولة على حدة لمعرفة سبب افتقارها للاستقرار.

نظرة أقرب على كلّ منطقة أوروبا

زعزعة الاستقرار في أوروبا ناتجة عن خطأ أساسي في تأسيس الاتحاد الأوروبي الذي جمع مجتمعات واقتصادات مختلفة للغاية في كيان واحد، وعملة اليورو الموحدة المثال الأوضح على ذلك. ودائمًا ما تحدث أزمات اقتصاديّة، وبالتالي، عندما حدثت هذه الأزمة الاقتصاديّة، اضطرّت أوروبا لأن تضع سياسة واحدة تلبّي حاجات اقتصادات دول أوروبا الشماليّة والجنوبيّة. والتوصّل لسياسة واحدة تحقّق ذلك مستحيلٌ، كذلك وضعت السياسات المتبعة أوروبا الجنوبيّة في وضعٍ غير مؤاتٍ بالمرّة، ممّا سبّب كسادًا إقليميًا.
وخلق اختلاف المصالح الوطنيّة مشكلةً ثانيةً. فاستعادت الدول ذات السيادة حقّها في اتخاذ قرارات مستقلة عن سياسات الاتحاد الأوروبي المركزيّة، كما حدث في أزمة الهجرة إلى أوروبا. إذًا، تشهد أوروبا مجددًا نفس ما حدث قبل الحرب العالميّة الثانية من انتقال من الفشل الاقتصادي إلى القوميّة المتشددة، والصراعات القديمة بين الأمم الأوروبيّة تعاود الظهور. بالإضافة إلى ما سبق، اعتماد ألمانيا المفرط على الصادرات ليس سوى أزمة قيد النشوء. فتشكّل الصادرات في ألمانيا 46.9 من إجمالي الناتج المحلّي في حين الطلب على السلع المصنّعة ثابت أو في طور الانخفاض. وفي حال انخفضت الصادرات الألمانيّة، سينخفض إجمالي الناتج المحلّي وسيرتفع معدّل البطالة.

روسيا

المشاكل الأساسيّة في روسيا ذات طابع استراتيجي واقتصادي. وعلى الصعيد الاستراتيجي، لطالما أحاطت روسيا نفسها بمنطقة عازلة تمتد من دول البلطيق إلى أوكرانيا.
لكن انضمت دول البلطيق إلى الناتو، وجعلت الأحداث في أوكرانيا روسيا تعتقد أنّ الغرب يحاول استقطابها هي الأخرى. وتقوّض خسارة المنطقة العازلة هذه الأمن القومي الروسي، لكن على الأقل تمّ ذلك بشكلٍ محايد.
وفي الفترة نفسها تقريبًا، أظهر انهيار أسعار النفط أنّ روسيا قد فشلت مجدداً في إنشاء اقتصاد حديث باستخدام عائدات النفط عندما كان سعره مرتفعًا.
ونتيجة لذلك، باتت سيطرة روسيا على المناطق الطرفيّة فيها في خطر بعد أن كانت ممكنة بفضل الدعم المالي الذي قدّمه مركز الدولة لهذه المناطق، كذلك، بات التماسك السياسي الروسي في مهب الريح. وتاريخياً، حاولت روسيا في فترات ضعفها التعويض عن ذلك الضعف من خلال التركيز على قوّتها الخارجيّة. وهذا ما دفعها للتدخّل في الشرق الأوسط.

الشرق الأوسط

المسألة بسيطة في الشرق الأوسط. أولاً، بدأت الدول التي أسّسها البريطانيّون والفرنسيّون تتفكّك، فهي في الأساس دول قوميّة مصطنعة، لذلك وحدهم الطغاة قادرون على السيطرة عليها.
وثانياً، تستبدل ثقافة المنطقة الأصليّة، وهي الإسلاميّة، الثقافة السياسيّة ذات التوجّه العلماني التي كوّنها البريطانيّون. وبالتالي، الشرق الأوسط الجديد يتفكّك وما يحلّ مكانه هو شرق أوسط قديم.
وخلال الحرب العالميّة الثانية، ارتفع الوعي الإسلامي، كذلك ازدادت المشاعر المعادية لبريطانيا وبالتالي الموالية لألمانيا. وفي الواقع، الوضع في الشرق الأوسط اليوم شبيه بحاله خلال الحرب العالميّة الثانية.

الصين

تعيش الصين حالياً نفس التباطؤ الذي شهدته اليابان حوالى العام 1990.
وليس من المنطقي أن تبقى الصين في نفس وتيرة النمو التي شهدتها خلال السنوات الثلاثين الماضية، وذلك ليس لأسباب هيكليّة فحسب، بل لأنّ مئات ملايين الصينيين لعبوا دورًا ثانوياً جداً في النمو الاقتصادي، وباتوا يعلمون أنّهم لن يلعبوا دورًا أهم أبداً. إذّ تحول المنطقة الساحليّة التي اضطلعت بدورٍ أساسي في النمو الاقتصادي دون نقل الثروة إلى الداخل، الذي يطالب بتصحيح الوضع.
والخطر الذي يتهدّد الصين اليوم هو أن تعود نزعة الجهويّة التي سادت فيها من أواخر الثمانينيّات حتّى 1947. ولتفادي ذلك الخطر، فرضت الصين ديكتاتوريّة وأقامت حملة تطهيريّة. وفي الوقت عينه، كثّفت الصين مناوراتها في بحري الصين الشرقي والجنوبي، وعلى غرار نزهات روسيا في الخارج، تكثيف المناورات هذا مصمّم لتشكيل الرأي العام المحلّي أكثر ممّا هو لبدء حربٍ مسلّحة.
وتسعى الصين جاهدة لتجنّب عودة حالة الجهويّة التي سبقت الحرب.تعانى جميع مناطق أوراسيا أزمات مختلفة، وباتت جميعها تفتقر إلى الاستقرار. وتزعزع استقرارها بطرق مختلفة وبدرجات متفاوتة.
غير أنّنا لسنا بصدد حربٍ شاملة، وقد لا يؤول الوضع إلى ذلك. لكنّ أوراسيا بأسرها غير متزنة وتعاني مشاكل اجتماعيّة واقتصاديّة، فضلًا عن ما تشهده من تحوّلات هائلة في السياسات الداخليّة وعن ما تعيشه بعض المناطق من صراعات عسكريّة. ومن الواضح أنّنا على أعتاب تحوّل جذري سيصيب الطريقة التي يعمل بها العالم.

الولايات المتحدة

إليكم كيف تغيّر العالم: قبل الحربين العالميّتين، كانت الولايات المتحدة إحدى الدول التي تسعى إلى إحداث تحوّل في النظام العالمي، بينما ناضلت المؤسسة الحاكمة في أوروبا في سبيل بقائها.
أمّا اليوم فباتت الولايات المتحدة ركيزة النظام العالمي القائم، وتنتج ما يقارب ربع الناتج المحلّي الإجمالي العالمي، وجيشها هو الوحيد القادر على الوصول إلى أيّ مكان في العالم، ويتم إقحامها في كلّ المشاكل بشكلٍ أو بآخر. وتريد كلٌّ من الصين وروسيا وحتّى أوروبا الحدّ من قوّة الولايات المتحدة.
وبعد سقوط الاتحاد الأوروبي أضحت الولايات المتحدة القوّة العالميّة الوحيدة، وتوقّعت فترة نقاهة تهتم خلالها بالداخل. لكن انتهت هذه الفترة في 11ايلول/ سبتمبر 2011، وردّت الولايات المتحدة على هذا الهجوم بتدخّل كبير في العالم الإسلامي. غير أنّها عجزت عن حلّ مشكلة الإرهاب الإسلامي. فانتقلت بعد ذلك من استراتيجيّة التدخّل الكبير إلى التدخّل الخفيف الخفيف، معتمدة على قوى المنطقة في التعامل مع الجزء الأكبر من العبء.
ولا تستطيع الولايات المتحدة إدارة العالم، فلا شكّ في أنّها تملك قوّة عظيمة لكنّها ليست قادرة على فعل أيّ شيء. كذلك، لا تخصّ جميع صراعات العالم الولايات المتحدة. لذلك أخذت موقعاً تدير منه توازنات القوّة الإقليميّة، وتتدخّل بشكلٍ أقل بكثير ممّا فعلت سابقًا. وهذه ليست نزعة انعزاليّة، بل تتبنّى الولايات المتحدة الأسلوب البريطاني والروماني الذي يتسم بتدخّلات نادرة ومحدودة ودعم قوى إقليميّة حفاظًا على التوازن.
وقبل أن تدخل الولايات المتحدة الحرب العالميّة الثانية، توقعت أن تصل الحرب الأوروبيّة إلى نفس الطريق المسدود الذي وصلت إليه الحرب العالميّة الأولى. لكنّها واجهت موقفاً غير متوقّع بعيد سقوط فرنسا المفاجئ. فتدخّلت لكن فقط على أطراف المعركة في شمال أفريقيا وإيطاليا والمحيط الهادئ. وفي العام 1944، دخلت الولايات المتحدة في مواجهة مباشرة ضدّ ألمانيا التي اعتبرت العدو الأساسي في النورماندي، فاستخدمت عندها، أي قبل نهاية الحرب بأشهر، قوّتها الرئيسيّة. كذلك استخدمت قاعدتها الصناعيّة لدعم بريطانيا والاتحاد السوفيتي، بينما خاض السوفييت المعارك الكبرى.
ونأي الولايات المتحدة بنفسها عن أوراسيا يعيدها لنفس الموقع الذي اتخذته قبل العامين 1941 و1917، فتعتمد حالياً على التوازنات الإقليميّة إمّا لاحتواء الصراعات الإقليميّة أو التصدّي لها.
وتعزّز التوازنات الإقليميّة بالدعم العسكري والمساعدة الاقتصاديّة والقوى العسكريّة المحدودة. ولا تتدخّل بشكلٍ كبير إلّا في الحالات القصوى وفي اللحظة المناسبة الأخيرة. وتتوقّع سائر الدول تدخّل الولايات المتحدة، إلّا أنّ تدخّلها سيأخذ شكلًا جديداً جداً في هذا العصر الجديد.

الاستنتاج

لم يشهد العالم انعدام الاستقرار هذا الذي يعمّ جميع أنحاء أوراسيا منذ أن ولّت السنين التي سبقت الحرب العالميّة الثانية. وأشكال انعدام الاستقرار مختلفة، ولم يصل إلى مرحلة حرجة بعد.
غير أنّ الأزمات الاجتماعيّة والاقتصاديّة باتت شائعة، والقتال دائرٌ إلى حدٍ ما في الشرق الأوسط وعلى الحدود الروسيّة، والمناورات العسكريّة جارية في مياه الصين الإقليميّة.
ولم تجتمع هذه الأزمات بعد لتشكّل جحيماً شاملًا، إلّا أنّها بدأت تتفاعل. والأمر الأبرز هو أنّ الولايات المتحدة عادت للموقف الذي اتخذته قبل الحرب العالميّة الثانية.
والعامل الأخطر هو غياب قوّة رادعة ظاهرة، فما من قوّة واضحة يسعها وقف القتال في الشرق الأوسط، أو حلّ أزمة الاتحاد الأوروبي الداخليّة أو أزمة روسيا الاقتصاديّة والاستراتيجيّة أو أزمات الصين السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة.
وفي غياب قوّة رادعة، ستستمر الأزمات وستتفاقم. ويبدو أنّه ما من قوّة تستطيع احتواءها.وكنتيجة، الاستنتاج المعقول الوحيد هو أنّنا نشهد أزمة متفاقمة في أوراسيا.
وفي حال استمرّت هذه الأزمة، ستؤدّي إلى إعادة تشكيل المنطقة كما أعادت الحرب العالميّة تشكيلها.
المصدر: جيوبوليتيكال فيوتشرز – ترجمة الميادين نت

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.