النأي بالنفس بين تجنّب الخلافات العربية وبيان رئيس الحكومة المنحاز للسعودية

موقع إنباء الإخباري ـ
محمود ريّا:

 

كيف يمكن أن يكون النأي بالنفس نأياً بالنفس فعلاً، وليس انحيازاً عملياً لمحور دون آخر في المنطقة، ومتى يكون الانحياز مؤذياً للبنان أكثر، عندما يصدر موقف مؤيد لفريق ما من تيار سياسي ما، أم من شخصية سياسية تمثل مؤسسة رسمية من مؤسسات البلد؟

للإجابة على هذه الأسئلة لا بد من رسم خريطة للواقع الموجود في المنطقة، والذي يعكس نفسه على لبنان والمنطقة بشكل عام.

ليس خافياً على أحد أن هناك انقسامات خطيرة تجتاح عالمنا العربي، وهناك نزاعات دموية بين العديد من الأطراف الإقليمية، سواء في سوريا أو في اليمن أو في العراق، أو بين دول الخليج وقطر، أو بين السعودية ومحورها من جهة وإيران ومحورها من جهة أخرى.

وفي كل هذه الصراعات هناك أطراف في الداخل اللبناني تؤيد هذا الفريق أو ذاك، وينبع هذا التأييد من معطيات مختلفة، منها الإيديولوجي ومنها القومي ومنها الوطني ومنها المصلحي الصرف.

ونتيجة هذا الواقع حصلت احتكاكات عديدة بين الأطراف داخل لبنان، وكادت الأمور أن تتطور في أكثر من مرحلة إلى خلافات سياسية وصولاً إلى الصدامات الأمنية والطائفية.

أمام هذا الواقع، وللحفاظ على لبنان من الانزلاق إلى هاوية الاقتتال بسبب خلافات الخارج، كان طرح مخرج النأي بالنفس، وهو وضع سياسي ابتكره اللبنانيون، لحماية لبنان داخلياً، وللفرار من مواجهات حصلت مع بعض الدول العربية الفاعلة، كادت أن تطيح بأهم مؤسسات البلد، وعلى رأسها مجلس الوزراء الذي اختُطف رئيسه كرهينة، وكان ثمن الإفراج عنه “تفعيل” النأي بالنفس والخروج من “لعبة المحاور” في المنطقة.

تجاوز لبنان القطوع، وتم الاتفاق في الجلسة الشهيرة لمجلس الوزراء على اعتماد سياسة النأي بالنفس فعلاً لا قولاً، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية.

وعاد رئيس مجلس الوزراء عن استقالته ـ التي فُرضت عليه ـ واستأنف نشاطه على هذا الأساس.

ومن المفترض في هذه الحال أن يكون رئيس الحكومة هو الحارس الفعلي لهذه السياسة اللبنانية المبتكرة، والأكثر حرصاً على اعتمادها من قبل كل الفرقاء اللبنانيين، سواء كانوا من فريقه السياسي، أم من الفريق المقابل، وقد ساعدته الأطراف اللبنانية الأخرى على تحقيق هذا الأمر بأكثر من وسيلة، وبما لاقى ارتياحاً كبيراً في أنحاء البلد ومن قبل معظم الفاعليات السياسية الموجودة على الأرض.

ولكن في لحظة واحدة، خرج “النأي بالنفس” صارخاً: “من بيت أبي ضُربت”. فبمجرد حصول حادث واحد في دولة عربية أخرى سارع فريق لبناني أساسي إلى نقض النأي بالنفس وإلى إطلاق تصريحات تنادي بالويل والثبور وعظائم الأمور، بما يشكّل تهشيماً كاملاً لـ “الحياد” اللبناني المفترض تجاه الخلافات بين الدول العربية.

لقد أطلق الجيش واللجان الشعبية في اليمن صاروخاً بالستياً واحداً باتجاه العاصمة السعودية الرياض، وذلك في ردّ محدود على عشرات الغارات التي يشنها العدوان السعودي الأميركي على الشعب اليمني، واستهدف الصاروخ قصر اليمامة، مقر ملك السعودية، رداً على استهداف القصر الجمهوري في صنعاء بعدة غارات.

لم يكد الصاروخ ينفجر في الرياض حتى أطلقت كتلة المستقبل بياناً ضمّنته بنداً يحمل إدانة شديدة لليمن، ودفاعاً صريحاً وصارخاً عن الحكم في السعودية، في ما يشكل انتهاكاً واضحاً لكل ما سمّي بـ “النأي بالنفس”، واصطفافاً واضحاً إلى جانب طرف دون طرف آخر في نزاع بين دولتين عربيتين.

وبالرغم من حجم هذا الخرق، كان يمكن لما فعلته كتلة المستقبل أن يمرّ بأقل الخسائر، بالرغم من أن اجتماع الكتلة انعقد برئاسة رئيس تيار المستقبل، النائب سعد الحريري، الذي هو في الوقت نفسه رئيس وزراء لبنان.

إلا أن ما زاد الطين بلّة، وأوصل الأمور إلى حدود خطرة، هو قيام رئيس الحكومة نفسه، سعد الحريري شخصياً، بإصدار بيان إضافي مستقل، يحمل بدوره الكثير من التجني على الشعب اليمني الذي يقاوم العدوان السعودي الأميركي، مقابل الكثير من التقريظ والمدح للحكم السعودي، وصولاً إلى الحديث عن أوضاع خطرة وما إلى ذلك من تعابير.

المهم في الموضوع أن رئيس الحكومة اللبنانية، بصفته الرسمية، يصدر بياناً فيه انحياز لطرف عربي دون آخر، وذلك لخدمة أهدافه الشخصية، ما يجعل لبنان الرسمي منحازاً بشكل سافر لهذا الطرف، ودون أن يتقرر هذا الموقف في اجتماع رسمي للحكومة، أو بالتشاور مع مؤسسات الدولة الأخرى، وعلى رأسها رئاسة الجمهورية ومجلس النواب ومجلس الوزراء مجتمعاً.

إزاء هذا الانتهاك العنيف لـ “تسوية النأي بالنفس” من قِبل من كان يُفترض أن يكون الحامي لها، يبرز عدد من الأسئلة التي لا بد من الإجابة عليها، كي تبقى هذه التسوية محفوظة ومحترمة من قبل مختلف الأفرقاء اللبنانيين:

ـ لماذا يتم اعتبار أي تصريح يدين الإجرام السعودي تخلياً عن هذه السياسة، في حين لا يتوقف أحد عند التصريحات المؤيدة للسعودية والمنددة ببلد عربي آخر، ولا يُعتبر ذلك انتهاكاً لسياسة النأي بالنفس؟

ـ إذا كان النأي بالنفس يتمثل بعدم التدخل المباشر في شؤون الدول العربية والسماح لكل فريق سياسي بالتعبير عن مواقفه تجاه هذه الدول، فلماذا يعترض الفريق الآخر على الأفرقاء الذين يهاجمون السعودية بسبب جرائمها المستمرة في اليمن؟

ـ ماذا سيفعل رئيس الحكومة كي يخرج من هذا المأزق الذي ورّط لبنان فيه، وكيف سيعيد لسياسة النأي بالنفس احترامها؟ هل سيتراجع عن هذا الانتهاك لما اتفق عليه اللبنانيون، أم سيقدّم مصالحه ومصالح فريقه على مصلحة لبنان واللبنانيين؟

لقد ارتكب رئيس الحكومة اللبنانية خطأً كبيراً، ولا بد له من معالجة هذا الخطأ بسرعة، كي لا تصبح سياسة النأي بالنفس في خبر كان، وبالتالي تعود البلاد إلى دوامة الخلافات التي ـ بالكاد ـ نجح اللبنانيون من النفاذ منها.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.