“ثأر الأحرار”.. والهجرة المعاكسة من الكيان

موقع قناة الميادين-

حسن صعب:

شهدت “إسرائيل” في السنوات الأخيرة توجّهاً متزايداً لدى الإسرائيليين للانتقال إلى تجربة الحياة في الخارج، وهو التوجّه الذي تحوّل مع تولّي حكومة بنيامين نتنياهو إلى ما بات يُعرف بـ”الهجرة اليهودية العكسية”.

تعيش “إسرائيل” منذ سنوات كابوس الهجرة المعاكسة من الكيان إلى الخارج، من دون أن تتمكن حتى الآن من معالجة هذه الظاهرة أو الحالة المَرَضية الخطرة، التي لم تنفع معها محاولات القيادتين السياسية والأمنية الحد من تداعياتها أو التقليل من شأنها، مع تفعيل الحملات القائمة على قدم وساق لتهجير من تبقّى من “يهود” العالم إلى الكيان الإسرائيلي أخيراً.

ولا شك في أن الأوضاع الأمنية والسياسية المضطربة داخل الكيان وحوله هي السبب أو الدافع الأول لهجرة الإسرائيليين أو فرارهم قبل الاعتبارات الاقتصادية والاجتماعية، على أهميتها.

ومعلوم أن المقاومة في فلسطين بكلّ أشكالها ومعاركها – وآخرها معركة “ثأر الأحرار” التي خاضتها حركة الجهاد الإسلامي منفردة – والصراع الإسرائيلي المتنامي مع محور المقاومة في المنطقة، هما العاملان الأساسيان اللذان يتسبّبان بتدهور الأوضاع الأمنية والاجتماعية والاقتصادية من منظور القيادة والجمهور الإسرائيلي الذي يمكن توصيفه بالجبان، كما هي حال رأس المال بالنسبة إلى المستثمر في أي مشروع، إذ سيفشل المشروع حُكماً في غيابه.

الهجرة إلى الكيان: مسألة مصيرية
تُعدّ السيطرة على الأرض الفلسطينية جوهر الفلسفة التي انتهجتها الصهيونية العالمية منذ ولادة الفكرة الأولى لتوطين اليهود في فلسطين، والتي تابعتها “إسرائيل” بعد قيامها حتى الآن. وقد رافقت عمليات الاستيلاء على الأراضي عملية تغيير ديموغرافي؛ ففي جميع حالات الاستيلاء، كانت تجلب أعداداً من اليهود من مختلف أنحاء العالم ليحلّوا مكان السكان الفلسطينيين.

لقد شكّل الاستيطان المُكمّل لإستراتيجية تهجير “اليهود” إلى فلسطين حجر الزاوية في الفكر الصهيوني، وأساساً من أسس بناء “إسرائيل”. يختلف الاستيطان الصهيوني اختلافاً جوهرياً عن غيره من الأنماط الاستيطانية الأخرى التي شهدها العالم، ذلك أنه يرتكز على أبعاد عدة، يأتي في مقدّمتها الدين والأسطورة. وبالتالي محاولة خلق حقائق كيانية داخل التجمعات الفلسطينية العربية، بغية مضايقتها، ومن ثمّ طردها.

منذ مطلع القرن العشرين، رأت الحركة الصهيونية في هجرة اليهود إلى فلسطين هدفها الإستراتيجي لتحقيق إنشاء “الدولة”، وهو الذي تمّت ترجمته عند نشوء الكيان عام 1948، من خلال دعوة اليهود، أينما كانوا، للمجيء إلى الأرض الموعودة.

وقد مرّت عملية استقدام اليهود إلى فلسطين بمراحل ذهبية، إذ اعتبرت الحركة الصهيونية أن الهجرة إلى فلسطين هي الرافعة الأساسية، وهو ما منحها قيمة عليا لديها، إلى درجة أنها ألصقت بالأمر مجموعة من المصطلحات، على رأسها تعبير “علياه”، أي الصعود إلى “دولة إسرائيل”، في مقابل توصيف المتخلّين عن الفكرة أو الذين يفكّرون مجرّد التفكير في النزوح بـ”اليوريديم”، وهو توصيف ازدرائي يمثّل، في رأي الحركة الصهيونية، خيانة للفكر الصهيوني.

وانطلاقاً من هذه التوصيفات، من الواضح أنّ الهجرة إلى فلسطين تمثل قمّة الالتزام بالفكر الصهيوني، وهي الأساس التطبيقي الذي قام عليه الكيان الصهيوني ولا يزال.

الهجرة المعاكسة: خطر وجودي
شهدت “إسرائيل” في السنوات الأخيرة توجّهاً متزايداً للإسرائيليين للانتقال إلى تجربة الحياة في الخارج، وهو التوجّه الذي تحوّل مع تولّي حكومة بنيامين نتنياهو -التي تعتمد على الأحزاب الحريدية والتيار الديني واليمين المتطرف- إلى ما بات يُعرف بـ”الهجرة اليهودية العكسية”.

تجلّت هذه المخاوف عقب بيانات “دائرة الإحصاءات المركزية” الإسرائيلية -بشأن عزوف اليهود من أوروبا، وخصوصاً أبناء الجالية في فرنسا- عن المجيء إلى “إسرائيل”.

ووفقاً لنتائج استطلاع للرأي أجرته الإذاعة الإسرائيلية الرسمية “كان”، فإن أكثر من 25% من اليهود البالغين (فوق 18 عاماً) يفكّرون في الهجرة من “إسرائيل” تفكيراً جدّياً، في حين شرع 6% في إجراءات عملية للهجرة، وذلك بسبب تغلغل نفوذ الأحزاب الحريدية والتيار اليميني الديني في مفاصل الحكم، والإصلاحات في الجهاز القضائي التي يراها بعضٌ ممّن شملهم الاستطلاع “انقلاباً على الديمقراطية ونظام الحكم”.

ووفقاً لبيانات دائرة الإحصاء المركزية، بلغ عدد اليهود الذين يحملون “الجنسية” الإسرائيلية، والذين هاجروا من “إسرائيل” حتى نهاية عام 2022، نحو 900 ألف، علماً أن الإحصاء لا يشمل أولادهم الذين ولِدوا في الخارج.

وتشير تقديرات إحصائية حديثة إلى أن ما بين 800 ألف ومليون مستوطن إسرائيلي ممّن يحملون جواز سفر إسرائيلياً يقيمون بصورة دائمة في دول عدّة في العالم، ولا يرغبون في العودة إلى “إسرائيل”، بل إن هناك من الباحثين المحيطين بالوقائع الديموغرافية في فلسطين التاريخية مَن يذهب إلى حدّ تقدير عدد هؤلاء بمليون ونصف مليون نسمة.

وفي دراسة أعدّتها ونشرتْها وزارة الاستيعاب الإسرائيلية، تَبيَّن أن ثلث اليهود في “إسرائيل” باتوا يؤيّدون فكرة الهجرة، وخصوصاً بعد معركة “سيف القدس” في أيار/مايو 2021، وهو تاريخ كان المتوقّع في الإحصاءات الفلسطينية، كما الإسرائيلية، أن يكون عدد اليهود في فلسطين التاريخية قد وصل قبل سنة منه إلى 6.9 ملايين نسمة، في مقابل 7.2 ملايين فلسطيني.

في هذا السياق، وفي دراسة صادرة حديثاً عن مركز “تراث بيغن”، تبيّن أن 59% من اليهود في “إسرائيل” توجّهوا أو يفكّرون في التوجّه إلى سفارات أجنبية للاستفسار وتقديم طلبات للحصول على جنسيات أجنبية، فيما أبدت 78% من العائلات اليهودية المستطلَعة دعم أولادها الشباب للسفر إلى الخارج.

معركة “ثأر الأحرار” والهجرة المعاكسة
لقد كشفت معركة “ثأر الأحرار” الأخيرة، وبصورة أوضح من أي مرّة سابقة، مدى هشاشة المجتمع الإسرائيلي وضعفه، وعدم قدرته على احتمال مواجهة طويلة المدى، بسبب نقاط ضعفه المتمثلة في حساسيته الشديدة للخسائر البشرية، وحساسيته للخسائر الاقتصادية، وحساسيته للخسائر الأخلاقية والمعنوية.

وقد تلقّى ضرباتٍ في كلّ واحدة من هذه النقاط. ولا شك في أن “إسرائيل” تدفع ثمن تحوّلها إلى مجتمع رفاهية لا يحتمل الخسائر والتضحيات. ولعلّ ما نُشر من معلومات عن وجود 700 ألف إسرائيلي في الخارج يرفضون العودة إلى “إسرائيل” مؤشّر ذو أهمية على ذلك.

في هذا السياق، عقّب المحلل العسكري للقناة 13 الإسرائيلية، أور هيلر، على ادعاءات رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو وبعض المسؤولين في حكومته المتطرفة عن نجاح الجولة العسكرية أمام حركة الجهاد الإسلامي في تغيير المعادلة، بأنه “بات من الضرورة التأكيد أن معضلة غزة باقية ولا حل لها”، ونشرت القناة 12 استطلاع رأي يبيّن أن 44% من الجمهور اليهودي رأوا أن حكومة نتنياهو فشلت في ترميم “الردع” أو “تغيير المعادلة” أمام المقاومة الفلسطينية.

إن الفشل في استعادة الردع يعني استمرار الأزمة السياسية والأمنية “الوجودية” التي تحث على المزيد من الهجرة اليهودية المعاكسة مع تنامي قدرات المقاومة كماً ونوعاً، وفي ظل حكومة متطرفة وتدهور في الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وانقسامات عميقة بين المكوّنات أو القبائل العرقية والدينية المتناحرة في الكيان الإسرائيلي.

“ثأر الأحرار” وكيّ الوعي الجمعي
لطالما سعت “إسرائيل” لفرض وجودها وتوسّعها على الشعب الفلسطيني وشعوب المنطقة بالقوّة العسكرية وغيرها من الوسائل والأساليب القسرية والقهرية، لكنها عملت خلال العقود الماضية، وبموازاة هذه الأساليب، على كسر إرادة القتال والتحدي لدى أعدائها من خلال ما سمّته “كي الوعي”، الذي يعني سلب هذه الإرادة أو قلعها من جذورها. وقد فشلت في ذلك على أي حال.

في المقابل، اشتغلت قوى المقاومة على هذا الهدف أيضاً، ولكن على طريقتها، وهي تنجح في الاقتراب من تحقيقه في كل جولة لها مع العدو، سواء داخل ساحة المعركة الأساسية في فلسطين أو خارجها، وهذا ما شهدنا مؤشرات واضحة بشأنه خلال معركة “ثأر الأحرار” الأخيرة، لجهة كي وعي المستوطنين الصهاينة، وفرض فكرة استحالة هزيمة المقاومة عليهم، مع تكريس خيار واقعية انهيار الكيان واحتمال سقوطه في أذهانهم، وبالتالي دفع المزيد من المستوطنين إلى الهرب من “الجحيم”، وبما يهزّ ركناً أساسياً من أركان الكيان.

إن المتابع للإعلام الإسرائيلي لا يجد صعوبة في ملاحظة الهلع الداخلي المتحكم في المستوطنين، وقد وصل إلى مرحلة “كيّ الوعي”. ظهر هذا بوضوح في المقاطع المصوّرة التي عكست مستوى الهلع والرعب المسيطِر على المستوطنين جميعاً، فضلاً عما أكّده سكان المستوطنات، وخصوصاً الجنوبية منها، بأن الحياة لم تعد تُطاق، والبقاء في أماكن السكن شكل من أشكال الانتحار.

وهكذا بالنسبة إلى تعطّل دورة الحياة اليومية وإرغام نحو مليوني مستوطن على البقاء في الملاجئ وقرب الأماكن المحصّنة، وامتناع مئات آلاف الطلّاب من الذهاب إلى المدارس، وتعطّل الحركة في عدد من المطارات، وخلو الشوارع حتى في “تل أبيب” من المارّة… كل هذا يؤكد الاختراق العميق للوعي الجمعي الإسرائيلي الذي غدا مسكوناً بهاجس مواجهة الموت في أي لحظة وأي مكان.

كما أن وصول صواريخ “الجهاد الإسلامي” إلى “ريشون، لتسيون، غوش دان، رامات غان، حولون، أسدود، بئر السبع، سيدروت، تل أبيب” والقدس وغيرها يؤكد 3 نقاط جوهرية، هي:

أ- ما من مكان آمن في كيان الاحتلال.

ب- التدرّج في مديات الاستهداف وضبط تدرّجه واتجاهاته يعني الكثير، وجنرالات العدو يدركون ماذا يعني هذا الكلام.

ج- فشل القبّة الحديدية ومقلاع داوود في التصدي لصواريخ المقاومة المصنعة فلسطينياً له انعكاساته السلبية على الصعيدين العسكري والمجتمعي الإسرائيلي. هذا الأمر ليس مجرّد عنوان أو فكرة ترتبط بغيرها، بل هو جانب مهم يحتاج إلى بحث تحليلي مطوّل يمكن أن يُبنى عليه الكثير.

كذلك، ذكرت وسائل إعلام إسرائيلية أنّ مراكز الحماية النفسية التابعة للاحتلال الإسرائيلي سجّلت ارتفاعاً حاداً في عدد الذين يطلبون مساعدة بعد عملية “ثأر الأحرار”. وبحسب “القناة 12″، فإنّ مراكز الحماية النفسية جنوبي الأراضي المحتلة أفادت بـ”ارتفاعٍ دراماتيكي” في طلبات المساعدة النفسية في مركز “سديروت” وعسقلان.

وأشارت إلى أنّ هذه الحالة “ليست في الجنوب فحسب”، وأضافت: “في أيام الصواريخ، من الصعب الخروج من المنزل. لذا، هناك علاجات من بُعد”. وقبل أسبوع، تحدّثت وسائل إعلام إسرائيلية عن ارتفاع طلب اتصالات المساعدة من الصدمة بنسبة 550%، منذ الإصابة المباشرة في مستوطنة “روحوفوت”.

استنتاجات
من منظور تحليلي عام، يمكن الاستنتاج بأنَّ تمكّن المقاومة من شلّ نصف كيان الاحتلال، شعباً ومساحة ومؤسسات، طيلة أسبوع وأكثر، هو بمنزلة إنجاز استراتيجي لا يمكن إنكاره، بسبب التفاوت الهائل في الحجم والقدرات بين طرفي معركة “ثأر الأحرار”: حركة الجهاد الإسلامي و”إسرائيل”، والذي تصغر أمامه إنجازات الكيان ذات البعد المرحلي والموقت، مثل نجاحه في اغتيال أبرز قادة الجناح العسكري لحركة الجهاد أو صدّ منظوماته الكثير من صواريخ المقاومة وتدمير مواقع إطلاقها وتصنيعها، في مقابل خسائر إسرائيلية بشرية ومادية محدودة جداً.

لقد ترك هذا الإنجاز المعنوي الكبير للمقاومة آثاره المباشرة والبعيدة المدى في مستوطني كيان الاحتلال، الذين ستتضاعف أعداد الراغبين منهم بالفرار من المستوطنات المجاورة لغزة والبعيدة عنها، كما من مستوطنات الضفة المحصّنة، وربما من كل أنحاء الكيان.

وقد استهدفت صواريخ المقاومة، “المتواضعة” بأغلبها، أمن واستقرار كل الكيان ومستوطنيه على مدى أسبوع كامل، وبما يمسّ عصب الاقتصاد وأشكال الحياة الاجتماعية لمختلف فئات المجتمع الإسرائيلي، في وقتٍ بلغت الأزمة السياسية (حول الإصلاحات القضائية وقضايا أخرى) أوجها، وكذلك الانقسامات ذات الجذر العرقي أو الديني.

وبناء عليه، فإن المستوطن الصهيوني الذي كان يراهن على قوّة “الجيش الذي لا يُقهر” من أجل التغلّب على “الأعداء” وعلى القيادة السياسية المتشددة من أجل فرض وجود الكيان في المنطقة خاب أمله مجدّداً من أن يعيش في أمان داخل “بلاد اللبن والعسل”، وخصوصاً حيال عجز “الجيش” الإسرائيلي المؤكد والواضح عن “معالجة” وضع غزة أو حركات المقاومة فيها، على الأقل منذ عام 2007، بموازاة فشل القيادة السياسية في مواجهة التحديات الداخلية والخارجية المتفاقمة يوماً بعد يوم.

وفي هذا السياق، ظهر الفشل الذريع لدى أجهزة الإعلام الإسرائيلي والحرب النفسية، كما من خلال المواقف السياسية لرئيس حكومة الكيان بنيامين نتنياهو والوزراء المتطرّفين في حكومته، والتي بالغت في تعظيم الإنجازات العسكرية والنوعية لعدوان “الدرع والسهم” ضد غزة، وقلّلت من وطأة قصف “سرايا القدس” للمستوطنات والمناطق الحيوية في الكيان؛ وكلّها لم تستطع إقناع المستوطنين ولا الخبراء والمحلّلين بأن “الجيش” الإسرائيلي استعاد قدرة الردع، وأن المقاومة في غزة انتهت أو تمّ ضبطها وتقييد حركتها لسنوات طويلة مقبلة، ونتائج استطلاعات الرأي الأخيرة عن تراجع شعبية نتنياهو و”الليكود” تؤكّد ذلك.

استطراداً، فإن الأرقام التي وردت آنفاً عن أعداد “المهاجرين” من جحيم الكيان خلال السنوات الأخيرة ربما تصبح أرقاماً بسيطة أمام الأعداد التي ستتضاعف من الهاربين أو طالبي جوازات السفر أو تأشيرات الدخول إلى أوروبا والولايات المتحدة وغيرها من دول العالم بعد أي معركة جديدة وممتدّة الزمن نسبياً (عدّة أسابيع) بين الكيان الإسرائيلي وكل قوى محور المقاومة أو أطراف محدّدة فيه، والتي تصعب مقارنتها مع أي معركة سابقة، ولن تكون آخرها معركة “ثأر الأحرار” المجيدة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.