ثقافة الكاوبوي المسكونة بالخوف: لا تراجع عن الأحادية القطبية

جريدة البناء اللبنانية-

خضر رسلان:

تتميّز الثقافات والمجتمعات العريقة بخاصية الثقة واليقين التي تظهر في احترام الذات واحترام الآخر والتسليم بحقه في العيش بحرية وكرامة وحياة لائقة، وهذا ما يفتقده المكوّن الأميركي بحكم تشكله من خليط متناقض في العادات والمعتقدات والثقافات، والذي استحوذ على الثروات ونهب أرض سكانها الأصليين من الهنود الحمر الذين تعرّضوا إلى أبشع أبادة عنصرية عرفها التاريخ.

هذا الإرث الثقيل في الذهنية الأميركية استولد الارتياب في نيّات الآخرين إلى الدرجة التي قد يفتح بعضهم النار على الآخرين لمجرد الشك. ومن هذه الخلفية أجازت القوانين الأميركية بحرية حيازة الأسلحة، وتحت عنوان اختلافات الثقافات يمكن تبرير أيّ جريمة قتل بين أميركيين ومواطنين من شعوب أخرى، واعتبار أنّ القتيل ربما يكون جاهلاً باختلاف الثقافات وأنّ القاتل الأميركي بحكم ثقافته المتحضّرة مارس حقّ الدفاع عن النفس بحرية. هذا النموذج الأميركي المبني على عدم الثقة والشك بالآخرين يفسّر تخلي أميركا عن أصدقائها إذا ما دعت الضرورة أو مصلحتها إلى ذلك.

انها ثقافة الكاوبوي اللاحضارية المسكونة بالخوف والتي تفتح النار على الآخر لمجرد الشكّ، ومن ثمّ في انتهاج سلوك عدواني لا يكترث بالنتائج أو بالتضحية بالطرف الآخر.

هذا الواقع الذي يعيشه المجتمع الأميركي في ظلّ دولة تدعو إلى عولمة (الحياة) الأميركية على العالم ونقل نموذج الأميركي المتحضّر الذي له الحقّ في إلغاء الآخر الى إعطاء الحقّ للدولة الأميركية الكاوبوي في سيادتها على العالم وبشكل أحادي ولو أدّى ذلك الى إبادة الشعوب عن طريق القتل والتجويع والحصار الشامل، كما سحقت نظام سلفادور الليندي الاشتراكي في تشيلي، وقوّضت الثورة السّاندينية في نيكاراغوا بقسوة وكما اقتلعت الرئيس البنمي دانيال أورتيغا من قصره عنوة وسجنته، ومثلهُ القس الهاييتي أريستيد رئيس هاييتي الشرعي ونفته الى الكونغو قسراً ونصّبت بديلاً له، هذا الى جانب وقوفها الدائم الى جانب الاحتلال «الإسرائيلي»، وغير ذلك الكثير من النماذج الأميركية في الهيمنة والتسلط وهضم الحقوق.

الكاوبوي بين الأحادية والتعددية القطبية

11 آب 2022 كتب العالم السياسي الأميركي الراحل روبرت جيرفيس في مقدمة كتاب بعنوان «التدخل الأميركي الجديد»، يقول فيها إنّ «التدخل أميركي مثل فطيرة التفاح». وهي سياسة تتميّز بالتدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى وتقويض حكمها، بهدف نهائي يكمن في ضمان الهيمنة الأميركية.

ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية قادت الولايات المتحدة أكثر من 80 بالمئة من إجمالي الحروب التي وقعت في العديد من دول العالم باسم «الديمقراطية» و»الحرية» و»حقوق الإنسان» تاركة وراءها الموت والدمار في الكثير من بلاد العالم فالحرب طريقة الحياة الأميركية كما أشار المؤرّخ الأميركي بول إل أتوود.

بعد نهاية الحرب الباردة، رأت الولايات المتحدة نفسها أنها القوة العظمى الوحيدة في العالم، وهذه فرصة نادرة لإعادة تشكيل العالم بالشكل الذي تراه مناسباً ووفقاً للإرث الثقيل في الذهنية الأميركية الذي يرتاب من نوايا الآخرين فانتقمت من أولئك الذين رفضوا الامتثال لها. وامتدّت العواقب إلى ما هو أبعد من الخسائر البشرية والانهيارات الاقتصادية والاضطرابات الاجتماعية للدول المستهدفة، لتصل إلى تحطيم الاستقرار الإقليمي والعالمي ولتبرير سياستها التدخلية، فأخفت الولايات المتحدة جرائمها لتُظهرها على أنها «نظرية الحرب العادلة» وما تسمّى «تجارب ديمقراطية».

لكن امتثالاً للسنن التاريخية وسيادة الدول التي تحدث عنها علماء الاجتماع لا سيما ابن خلدون في مقدمته فان «أحادية القطب» التي تتشبّث بها الولايات المتحدة لن تدوم طويلاً. وسيتحوّل العالم نحو عالم متعدّد الأقطاب وهذا ما تخشاه أميركا من ضعف لتفوقها العالمي، وبالتالي بدأت العمل على إحكام قبضتها استباقاً لذلك وعلى رأس أولوياتها تهشيم كلّ من يهدّد قيادتها الأحادية للعالم وبناء على ذلك وانسجاماً مع الذهنية الأميركية التاريخية المرتكزة على الشكّ والارتياب بالآخر فإنها لن تألو جهداً في رفع وتيرة التوتر وإشعال الحروب وإزهاق الأرواح في محاولة منها لوقف التمرّد الروسي ومواجهة المارد الصيني اللذين يقودان الاتجاه العالمي بقوة نحو عالم متعدّد الأقطاب مزوّدين بإمكانيات هائلة بشرية وتكنولوجية فائقة التطور.

ربما تتغاضى الذهنية الأميركية عن التفلت السعودي الذي أبرم عقوداً اقتصادية مع الصين، وأيضاً ربما تتماشى مع ايّ استدارة تركية نحو ترميم علاقتها مع سورية، ومن غير المستبعد أن تغضّ النظر عن اي تحسّن مرتقب في العلاقات الإيرانية السعودية، إلا أنها بلا شك، وانطلاقاً من الموروث التاريخي الذي يتحكم في العقلية الإلغائية الأميركية، فإنها كما أجازت للمواطن الأميركي المتحضر إطلاق الرصاص وحمّلت القتيل المسؤولية لجهله اختلاف الثقافات فإنّ الإدارة الأميركية وأدواتها في الدولة العميقة سيستمرّون في سياسة العقوبات والحصار واستنزاف الشعوب. ويحمّلون الروس والصينيين وإيران ودول «بريكس» وغيرها من الدول الرافضة للأحادية القطبية وكلّ ما ينتج عن ذلك من ضحايا وكوارث وويلات… إنها ثقافة الكاوبوي، شريعة الغاب في دولة تسمّى أميركا.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.