جامعة “هارفارد” والعبودية.. تحقيق وتعويضات

موقع العهد الإخباري-

د. علي دربج:

“العبودية في جامعة هارفارد”، عنوان تصدّر أكثر من صحيفة أميركية بعد أن فتحت الجامعة الأميركية العريقة تحقيقًا حول علاقتها تاريخيًا بالرق وإرثها اللصيق بالعبودية. المسار التصحيحي للجامعة اتخذ طابعًا عمليًا بنشر نتائج التحقيق وصولا لدفع تعويضات مالية… فما هي التفاصيل؟

البداية تعود الى العام 2019، عندما عيّن رئيس جامعة هارفارد، لورانس إس باكو، لجنة من أعضاء هيئة التدريس للتحقيق في علاقة الجامعة بالرق بالإضافة إلى إرثها الذي التصق بالعبودية، في وقت كان الجدل حول قضية العرق تزداد وتيرته في جميع أنحاء الولايات المتحدة (ولم يتوقف لغاية الان)، لدرجة مطالبة عدد من الطلاب (ذي البشرة الداكنة) بإزالة أسماء الأشخاص المتورطين في تجارة الرقيق من مباني الجامعة. والملفت أن تداعيات هذه القضية امتدت الى جامعات أخرى، ولا سيما براون، التي أجرت بدورها عمليات نبش مماثلة لماضيها للبحث إذا كان يوجد في سجلها ما يشير الى سلوك عرقي مشين.

الى هنا، قد يبدو الأمر عاديًا بالنسبة للكثيرين حول العالم، نظرًا لتجارب الولايات المتحدة المريرة مع “العبودية”. لكن ما كشفه التقرير الذي خلصت اليه اللجنة، يبعث على الصدمة فعلًا، إذ ان الأشخاص الذين تم استعبادهم عاشوا في حرم كامبريدج، ماساتشوستس، في مقر إقامة رئيس الجامعة، وكانوا جزءًا (غير مرئي) من نسيج الحياة اليومية للجامعة، ويحظر عليهم الخروج، الى العلن إلا نادرًا.

أكثر من ذلك، فعلى مدار ما يقرب من 150 عامًا، منذ تأسيس الجامعة عام 1636 ــ وحتى صدور قرار المحكمة القضائية العليا في ماساتشوستس أن العبودية غير قانونية في العام 1783 ــ قام رؤساء هارفارد وقادة آخرون، بالإضافة إلى أعضاء هيئة التدريس والعاملين فيها، باستبعاد أكثر من 70 فردًا، بعضهم عمل في الحرم الجامعي، حيث كان الرجال والنساء المُستعبدون، مُسخرين لخدمة رؤساء وأساتذة الجامعة، بما في ذلك إطعام ورعاية طلابها.

ليس هذا فحسب، كان هناك ما لا يقل عن 41 شخصًا بارزًا مرتبطين بجامعة هارفارد تورطوا باستعباد أشخاص. والمخزي أن بينهم أربعة رؤساء لجامعة هارفارد، مثل زيادة ماذر، رئيس الجامعة من العام 1692 إلى 1701، وبنيامين وادسوورث، الرئيس بين الأعوام 1725 إلى 1737.

كما اشتملت اللائحة أيضًا، على ثلاثة حكام للجامعة (والحاكم منصب اداري)، وبعض أساتذة في علم اللاهوت والرياضيات والفلسفة الطبيعية، والأهم من بين جميع هذه المراكز، مؤسس مؤسسة هوبكنز، وإسحاق رويال جونيور.

المفاجأة، أن الجامعة منذ القرن السابع عشر وحتى القرن التاسع عشر، لم تكتف بتسخير “العبيد” لرفاهية رؤسائها وأساتذتها وطلابها، بل استغلتهم الى أبعد الحدود، بعدما وجدت فيهم مصدرًا لتحصيل المال بالتعاون مع المانحين ـــ خصوصًا من أصحاب المزارع الأثرياء ـــ الذين ارتبطوا بعلاقات مالية واسعة مع الجامعة، وحققوا ثروات طائلة جراء شراكة “العبودية” هذه مع هارفارد، إذ تضمنت هذه العلاقات المالية المربحة، بشكل خاص، استفادة المانحين الذين راكموا ثرواتهم من خلال تجارة الرقيق، ومن عمل “العبيد” في المزارع في جزر الكاريبي وفي الجنوب الأمريكي، ومن صناعة النسيج المُعتمِد على القطن الذي يزرعه “العبيد” المحتجزون في أقبية العبودية.

علاوة على ذلك، كسبت الجامعة من استثماراتها المالية الخاصة، والتي شملت قروضًا لمزارعي السكر الكاريبيين، وشركات تقطير الكحول، وموردي المزارع، إلى جانب الاستثمارات في تصنيع القطن.

ماذا عن السلوك العنصري للجامعة؟

في الواقع لم تقف فضائح الجامعة عند ما تقدم، إذ قوبلت المحاولات المبكرة للاندماج بين الطلاب البيض والسود بمقاومة شديدة من قادة هارفارد الذين تمسكوا بكونها مؤسسة علمية، مخصصة لأصحاب البشرة البيضاء، بما في ذلك أبناء الجنوب البيض الأثرياء.

ففي السنوات التي سبقت الحرب الأهلية في أميركا، حافظ القائمون على الجامعة على “تفوق البيض” ــ تعتبر امتداد للسياسات التي اتبعها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وبنى عليها ارثه وثقافته السياسية ـــ وذلك عبر حصر قبول الطلاب بأصحاب البشرة البيضاء وحرمان الأشخاص السود من ارتيادها.

وتبعًا لذلك، وفي عام 1850، قبلت كلية الطب بجامعة هارفارد ثلاثة طلاب سود، ولكن بعد أن اعترضت مجموعة من الطلاب البيض والخريجين على هذه الخطوة، طردهم العميد، أوليفر ويندل هولمز الأب.

أما أُمّ الفضائح، فهي أن أعضاء هيئة التدريس بجامعة هارفارد، لعبوا آنذاك دورًا خبيثًا، في نشر النظريات الزائفة عن الاختلافات العرقية التي تم استخدامها فيما بعد، لتبرير الفصل العنصري ودعم إبادة المانيا النازية للسكان “غير المرغوب فيهم”. والأسوأ أن السلطات العلمية البارزة بالجامعة، استغلت هذه النظريات للترويج لاحقًا لما يسمى بعلم الأعراق في جامعة هارفارد والمؤسسات الأمريكية الأخرى، واللافت أن هذه النظريات بقيت وصمة عار على جبين علماء العرق هؤلاء، وجزءًا من تراث هارفارد الحي اليوم.

المثير، أن الممارسات العرقية المخزية، دفعت أحد علماء الأعراق هؤلاء وهو عالم الطبيعة وأستاذ جامعة هارفارد لويس أغاسيز، الى وضع صور بواسطة الداجيروتايب (صندوق التصوير الفوتغرافي الاول) لأشخاص مستعبدين في محاولة لإثبات دونيتهم.

ماذا عن إرث العبودية لجامعة هارفارد في العصر الحديث؟

في الواقع، تم توارث الممارسات العرقية في الجامعة من جيل الى آخر لدى الرؤساء والموظفين والمدرّسين. فحتى وقت قريب من العام 1960، كان إرث العبودية ما زال قائمًا وإن بشكل أقل بالنسبة للطلاب السود المقبولين في جامعة هارفارد. فخلال العقود الخمسة بين 1890 و1940، التحق ما يقرب من 160 من السود بكلية هارفارد، أو ما معدله حوالي ثلاثة (طلاب سود سنويًا) و30 طالبًا لكل عقد من الزمن.

وفي عام 1960 تحديدًا، كان هناك تسعة رجال سود من بين 1212 طالبًا جامعيًا في المرحلة الجامعية الأولى في كلية هارفارد، وقد مثّل هذا الرقم تقدمًا نسبيًا، مقارنة بالعقود السابقة.

في المحصلة، وبعد انكشاف هذه النتائج، أوصت الجامعة بدفع تعويضات مالية للجمعيات التي تعنى بحفظ ذاكرة تلك الحقبة،
وأوصى التقرير بدفع مبلغ 100 مليون دولار لإنشاء صندوق إرث العبودية. في هذا السياق، قال كتب رئيس جامعة هارفرد لورانس باكو إن “بعض هذه الأموال ستكون متاحة للاستخدام الحالي، بينما سيُحفظ الرصيد في هبة لدعم هذا العمل بمرور الوقت”. ويعد الصندوق واحدًا من أكبر الصناديق من نوعه، ومن أهدافه تمويل تنفيذ توصيات التقرير.

اضافة الى المسار التصحيحي الآنف الذكر، كان لافتًا إصدار المجلة الطلابية الصادرة عن الجامعة حديثًا تقريرًا داعمًا لمنظمات مقاطعة الكيان الاسرائيلي حول العالم أو ما يعرف بـالـ “BDS”.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.