داعش بين محاور ثلاثة: كيف ستتغير اللعبة الإقليمية؟

daesh-crime

موقع العهد الإخباري ـ
حسام مطر:
أضاف حضور داعش إلى قلب الصراع الإقليمي مزيداً من التعقيد على مشهد المنطقة وتوازناتها وأفق التسوية فيها. سبق لمدرسة “الواقعية البنيوية” أن إعتبرت أن نظام “ثنائي القطبية” هو الأكثر إستقراراً بناء على مفهوم “توازن القوى” الذي يعمل بفعالية بحال وجود قطبين فقط بسبب سهولة إجراء حسابات أدق لتوازن القوى وإنحسار التفاعلات بين طرفين, بما يقلص الخوف من الإحتمالات الأسوأ. أما في حالة النظام المتعدد الأقطاب فإن فرص الصراع تتضاعف نتيجة تعقد الحسابات وزيادة الغموض والضبابية وكثرة التفاعلات بين مجموعة من اللاعبين بما يحد من القدرة على التنبؤ ويسود القلق والشك والتشاؤم بما يدفع الجميع نحو حشد ما يمكنهم من قوة صلبة بما يُدخل الجميع في حلقة مفرغة من لعبة القوة التقليدية.
دخلت داعش في لحظة إقليمية محتدمة وفوضوية, بل كان تمددها نتيجة تلك الفوضى وما أنتجته من فراغات. بعد أن إنقسمت المنطقة بين محور واشنطن ومحور المقاومة منذ نهاية الحرب الباردة, شهد محور واشنطن إنقساماً حاداً مرشحاً لمزيد من السخونة, بين السعودية والإمارات من جهة وقطر وتركيا والإخوان المسلمين من جهة ثانية. يتنافس المحور الاميركي المنقسم في مصر, سوريا, فلسطين, والعراق بشكل أساسي, أي أن المشرق العربي يشهد تنافساً ثلاثياً بالوقت الراهن.  وعليه وبعد أن كانت داعش ومثيلاتها أداةً في الصراع مع محور المقاومة, أصبحت داعش أيضاً جزءً من التنافس والصراع بين محوري السعودية وتركيا. إذاً تقف داعش عند الفالق الناتج عن تصادم المحاور الثلاث, محور المقاومة, محور السعودية, ومحور تركيا.
من ناحية الولايات المتحدة، فتجد في داعش إطاراً قابلاً للإستخدام والإستغلال ما دام لم يمتد نحو خطوط مصالحها في المنطقة، كما حصل في أربيل. داعش هي بديل “الحاجة والضرورة” للقوات الأميركية المنسحبة من العراق، ولكن بما أن لداعش أجندتها الخاصة فإن الأميركيين يقيمون بشكل دائم مكاسب وأعباء داعش، فرصها وتهديداتها، وعند الضرورة تتدخل القوة الجوية الأميركية لترسم بالنار حدود “غض النظر” الأميركي عن داعش، هي إستراتيجية “التشذيب”. وفي تلك اللحظة ستحاول واشنطن “بيع” غاراتها الجوية المحدودة لكل المتضررين من داعش, واشنطن تكسب من داعش عند السلم والحرب معاً.  بناء على ما تقدم يمكن عرض الملاحظات التالية:

1-    يدل خطاب السيد حسن نصر الله الأخير أن محور المقاومة إتخذ قراراً بالمواجهة المباشرة مع خطر داعش الذي يُراد له أن يعمل “كمساحة إستنزاف” طويلة الأمد لمحور المقاومة. يمكن إعتبار خطاب السيد كمحاولة أخيرة لبناء توافق محلي وإقليمي واسع لمواجهة داعش, وإلا تصبح أي خطوة أحادية من محور المقاومة تجاه داعش في العراق وسوريا تحديداً مبررة وشرعية.

2-    إن تصنيف السيد لتهديد داعش بمستوى التهديد الإسرائيلي يدل على حجم الموارد التي سيخصصها هذا المحور للتعامل مع التهديد الداعشي. وفي ذلك أيضاَ مخاطبة للوجدان والإجتماع السني في المنطقة بأن هذه الحرب لن تكون بخلفية مذهبية، إذ يتماثل التهديد الداعشي مع التهديد الإسرائيلي في الوحشية, تقديس الذات, محو الآخر, العنف المفرط والرعب أداة ووسيلة, التحلل من الأخلاق لصالح الإيديولوجيا, المنحى التوسعي لأقامة دولة كبرى ( الخلافة \ إسرائيل الكبرى)، السعي نحو القضاء على التنوع في المنطقة (حتى التنوع السني),  والإنتهازية التامة في التعامل مع المقدس.
3-    كانت السعودية الحاضر الغائب في الخطاب، وهذا يشير إلى أن محور المقاومة لم يغلق بعد أفق التفاهم المحدود مع السعودية، مستفيداً من الشقاق بينها وبين الحلف التركي. كان الأتراك الأكثر تأثيراً من ناحية لوجستية في حركة داعش إذ عبر معظم المقاتلين الأجانب لا سيما القادمين من وسط آسيا عبر حدودها, بالإضافة الى شحنات النفط التي تصدرها داعش والتي تبلغ بحسب بعض المصادر مليون دولار يومياً. في المرحلة الأولى أرادت تركيا إستخدام هذه الجماعات لإسقاط النظام في سوريا, وثم يقوم “المجتمع الدولي” تكليفها بالقضاء عليهم لصالح “المعتدلين” من حلفائها في الداخل كالإخوان المسلمين. أما اليوم فيبدو أن الأتراك أيضاً يضعون داعش في سياق ترهيب وإبتزاز السعودية.

يعزز من هذه الفرضية أن النظام السعودي هش بالمقارنة مع قطر وتركيا, وأغلب الدواعش يحملون الجنسية السعودية وهم وإن كانوا يدينون بالولاء للفكر الوهابي إلا أنهم معارضون للوهابية السياسية أي آل سعود. وثم فأنه في أدبيات القاعدة وداعش تبرز السعودية كإحدى أهداف ما بعد الخلافة. ففي المذكرة الإستراتيجية الصادرة عن مؤسسة المأسدة عام 2011، يقر الكاتب أن الخلافة يجب أن تتفادى ساحل الخليج النفطي في المرحلة الأولى، كي لا تثير ردة فعل القوى الكبرى وذلك الى حين إشتداد عود الخلافة وقدرتها على التعامل مع هذا التهديد المفترض. كما أن هذه الجماعات تدرك الأثر العاطفي – القدسي لمكة والمدينة وما لها من الأثر في جذب “المسلمين” الى تجربة الخلافة.

4-    يُدرك محور المقاومة أن تبريد المناخ الإقليمي والمذهبي لا يمكن أن يتم إلا بتفاهمات جزئية أقلها مع أحد جناحي المحور الأميركي المنقسم، السعودية أو تركيا. ففي حين يبدو الإيرانيون يتولون العمل على الجناح التركي، يسعى حزب الله لمد الجسور مع الجناح السعودي. لا يملك محور المقاومة سياسةً أو إستراتيجيةً لخوض مواجهة مذهبية, بل يخطط للعكس تماماً بالرغم مما وصل إليه إجرام محوري السعودية وتركيا بحق الأقليات ودول المشرق العربي. فهل يحفز التوتر التركي – السعودي أحدهما للتسوية او لتفاهم موضعي مع محور المقاومة؟ هل تدفع المخاوف من إنفلات داعش عن السيطرة والتحكم، بالسعودية نحو تفاهم في العراق لا سيما بعد حل “إشكالية” المالكي؟ هل أصبح أردوغان أقل حاجةً للتوتير الخارجي بعد تسلطه على المجال السياسي الداخلي, فيتجه للتبريد مع محور المقاومة من البوابة السورية أو العراقية؟

على الأغلب أن تلقى داعش خلال السنوات القليلة المقبلة مصير القاعدة في أفغانستان. لا تنتمي داعش إلى هذا العصر، هي تعتاش على لحظة تناقضات كبرى، هي تتمدد أكثر مما يمكن للجميع إحتماله، هي تستجمع مزيد من الأعداء بمرور الساعات، الفراغ الذي نشأت فيه غير قابل للإستدامة، وكل تسوية في المنطقة ستأكل من نفوذها والشرق الأوسط مصيره التسويات ولو الجزئية. الإشكالية الأساسية لداعش أنها تفتقد الجذب فتعوضه بالرعب، تمتهن الخصومة ولا تتقن الشراكة والأحلاف، تتوسع في الجغرافيا وتتقلص في الإجتماع، وفي لحظة إقليمية مؤاتية ستنفجر هذه التناقضات وتقضي عليها. مآل داعش الإندثار الى خلايا كمثيلاتها في القاعدة، ولكن لا ضمانة تمنع ظهور “داعش أخرى” ما لم تتم معالجة ثلاثي التكفير الإرهابي في المنطقة ” الإستبداد – التبعية للهيمنة الدولية – الفكر الديني الوهابي”. إن كان محور المقاومة غير قادر على معالجة هذه الجذور، إلا إنه قادر على الحد من أعراضها وتداعياتها بثلاثية “المقاومة – المشاركة السياسية – وفكر ديني متسامح يقر بالتنوع ومركزية الإنسان”.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.