دول الخليج الفارسي تفتقد للتوافق الإستراتيجي مع الصين

صحيفة الوفاق الإيرانية-

عباس الجمري:

منذ اتباع الصين سياسة اقتصادية تقوم على الإصلاح بدءاً بالزراعة، حينما مُنح المزارعون الحق في استغلال أراضيهم الخاصة، مروراً بدخول البلاد في التجارة العالمية عام 1979، وليس انتهاءً بالطفرة الاقتصادية عام 2001، ومنذاك الوقت تعمد الصين إلى بناء استراتيجية مختلفة تماماً عما دأبت الإمبراطوريات في بنائه بغية التمدد والتحكم والسيطرة والنفوذ.

الصين لم تدخل من بوابة العسكر ولا حتى من بوابة السياسة للولوج للاقتصاد أو الهيمنة، وأحد تلك الأسباب أن اقتصادها كان منهاراً والمجاعة تضرب أجزاءً من البلاد قبل السبعينيات، فعمدت إلى قلب المعادلة، وفتحت بوابة الاقتصاد، عبر تطوير الزراعة، والدخول عالم الصناعة والتمكن من سوق العالم ثم حفر حيثية توافقب حجم اقتصادها وجغرافيتها وديمغرافيتها والأهم؛ أنها توافق حجم امتدادها الحضاري العريق في الحكم والسياسة.

وإطلالة بكين تالياً على الصراع الدولي على موارد الطاقة والثروة لم يتأتَ بما يسمى “القوة الغاشمة” كالتي انتهجتها الولايات المتحدة كاستراتيجية ثابتة منذ انتهاء الحرب الباردة وتسيّد القطب الواحد، قبل ضموره مجدداً بفعل بروز قوى مختلفة إقليمية وعالمية تنافس واشنطن في كل شيء بما في ذلك القوتان العسكرية والاقتصادية اللتان تُعَدّان أكثر الأدوات استخداماً لدى إدارة البيت الأبيض في السياسة الخارجية.

ومن الممكن أن نسمي الاستراتيجية الصينية الاستراتيجية الناعمة، التي تتجنب الاصطدام لبناء منظومتها الاقتصادية التي عما قريب ستهيمن على معظم الأسواق العالمية في معظم القطاعات، بل وستتوسع حتى في الجانب الخدمي الذي يعد مرتكزاً لتسيير السوق والمصارف والقنوات المالية والاقتصادية.

انفتحت دول الخليج الفارسي على السوق الصينية منذ أكثر من عقد، لكن ازداد التعامل التجاري مع بكين في السنوات الأخيرة، وبلغ الميزان التجاري عام 2020 بين الصين ومجموع مجلس تعاون دول الخليج الفارسي ما يتخطى حاجز الـ160 مليار دولار، 70 مليار دولار منها سلع صينية استوردتها دول الخليج الفارسي، و90 صادرات إلى الصين تمثّل معظمها في سوق الطاقة، وتدرك دول الخليج الفارسي أن للتعاون الاقتصادي دوراً فعالاً في السياسة، وهي تقف بين صديق استراتيجي يسير في قوس النزول وهي الولايات المتحدة الأميركية، وخصم لدود يسير في قوس الصعود وهي الجمهورية الإسلامية الإيرانية. لذلك من المهم قراءة السيناريوهات للعلاقة بين الصين ومجلس تعاون دول الخليج الفارسي.

ثمة قراءتان للعلاقة بين الصين ودول الخليج الفارسي، وهما:

الأولى: الصين بيضة القبان لدول الخليج الفارسي

التعاون التجاري والمالي المتصاعد بين دول الخليج الفارسي والصين، أعقبته محادثات في شؤون أخرى، فالسعودية تستورد صناعات صاروخية من بكين، وتحرص الإمارات العربية المتحدة على استيراد أنواع مختلفة من الدرون العسكري، ما يؤشر بوضوح إلى أن التوسع في فتح مجالات التعاون بين دول الخليج الفارسي والصين لا ينحصر في مصلحة الطرفين الاقتصادية، فهناك ما هو أشبه ببناء استراتيجية تفضي إلى جعل الصين “بيضة القبّان” في علاقة دول الخليج الفارسي بغرمائه في المنطقة أو أصدقائه الغربيين، فالوزن الاقتصادي الهائل للصين والثروة البشرية لديها والموارد والسلع التي تنتجها، كلها تؤثر في المناورة السياسية، ومثال على ذلك ما سرّبته صحيفة “وول ستريت جورنال” قبل أشهر عن عزم الرياض على بيع النفط للصين بعملة “اليوان الصيني”، وهذا في سياق حرب العملات التي أفرزته العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، وهذا ينعكس على السياسة على نحو واضح لا يمكن التقليل منه.

الثانية: التبادل التجاري المنفرد من دون رؤية موحّدة

القراءة الثانية تقول إن دول الخليج الفارسي في علاقتها بالصين وإن كانت مساحتها في ازدياد وبوتيرة سريعة، إلا أنها لا تأخذ شكل تكتل دول الخليج الفارسي ذي الاستراتيجية الواضحة، بل يجري مع كل دول الخليج الفارسي منفردة بمعزل عن الأخرى، ما يؤكد، بحسب هذه القراءة، أن دول الخليج الفارسي تفتقد إلى التوافق الاستراتيجي إزاء الصين الذي يمنحها القوة السياسية تالياً، أي إن التبادل التجاري الواسع بين الصين ودول الخليج الفارسي لا يمكن أن يستغله الأخير لأن هذا التبادل أصلاً مبنيّ على مصالح اقتصادية وتجارية محضة من جهة ومنفردة من جهة أخرى، وقد تنظر كلّ دولة من دول الخليج الفارسي إلى الصين بعين مختلفة على الصعيد السياسي.

دوافع الصين قد تغير المعادلة

هناك مرجحات لكل قراءة، لكن القراءة الثانية هي الأقرب إلى الواقع الحاضر، إذ لا يبدو في الأفق أي سياق موحّد لدول الخليج الفارسي ككتلة واحدة في موضوع علاقتها بالصين، ويبدو فعلاً أن التبادل التجاري، وحتى التعاون في الجنبات الأخرى كشراء منظومات دفاعية أو درون أو ما شابه، إنما يأتي في هذا السياق، وما من استراتيجية يمكن أن تستخدمها دول الخليج الفارسي لمصلحة سياساتها الخارجية، لكنّ هناك عاملين قد يغيران هذا الأمر، ويقربان دول الخليج الفارسي إلى القراءة الأولى، أي يقربها إلى بناء استراتيجية تجعل الصين ذات تأثير إيجابي في سياساتها الخارجية.

العامل الأول: أن من مصلحة الصين نفسها أن تجعل التكتلات الدولية تقيم لها وزناً، بل من أحد أهداف مشروع طريق الحرير مثلاً هذا الهدف. ولأن دول الخليج الفارسي من المصدّرين الأساسيين في سوق النفط والغاز، فسيدفع ذلك الصين إلى أن تقدم الإغراءات بمُلاءتها الهائلة في الصناعة والتجارة، وخصوصاً في قطاع التكنولوجيا لاعتماد بكين عاصمةَ قرار مهمة، ووسيطاً جديداً ولاعباً مختلفاً يمكن الاستفادة منه، فإذا نفث التنين في صراعه مع الغرب بعضاً من بأس جديته في الملفات المتنازع عليها صار لزاماً على الدول الصغيرة عموماً أن تنحاز أو تقف موقف الحياد، وكل ذلك محسوب بدقة، فالانحياز إلى المعسكر الغربي على نحو تام كما كان في السابق مستبعد، وهو ما سأذكره في العامل الثاني، والانحياز إلى المعسكر الصيني تماماً غير مقدور عليه لوجود نفوذ غربي ما زال يعمل عمله في دول الخليج الفارسي، فالحياد والاستفادة من الجميع خيار مرجح.

العامل الثاني: العامل الدولي نفسه بما يشهده من صراعات مصيرية، سواء في ساحة الاقتصاد أو السياسة أو العسكرية، وهو يشي بأن الغرب لا يمكن التعويل عليه مثلما كان من ذي قبل، صحيح أنه لا يزال مسيطراً على المال والأعمال في العالم، وأن شركاته العابرة للقارات لا تزال تعمل عمل مصاص دماء لدول العالم، إلا أن أوج هذه السيطرة خفت وذهب بريقها، وهي في نزول وإن اختلف تقدير مدى سرعة ذاك النزول، إلا أن العالم لم يعد كما هو في مطلع هذه الألفية.

وحاجة الصين تالياً إلى التموضع الجيوسياسي، خصوصاً في صراعات ثقيلة لا يمكن اختصارها في بحر الصين الجنوبي، ولا تايوان تتطلب مزيداً من توسعة ساحة النفوذ، وهناك حاجة إلى التعامل مع عالم مختلف تفتقد فيه هذه الدول الحامي التقليدي لها شيئاً فشيئاً، سواء على مستوى قدراته إزاء تنامي قدرات خصومه، أو على مستوى نية الغرب نفسه تقليل حضوره لتبدل الأولويات، فإن تلك الحاجة تفرض على حوض الخليج الفارسي اللجوء إلى العملاق الآسيوي المتنامي، وهذه النقطة تحديداً، إما ستختبر مدى عمق النظرة السياسية لدول الخليج الفارسي، وإما ستؤكّدعدم مواكبتها المخاطر والمتغيرات الدولية كما يجب.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.