سوريا الأسد: مجتمعاتنا عقائدية وستبقى عقائدية

موقع الخنادق-

زينب عقيل:

ثمة تحوّل في الرؤية الاستراتيجية للنظام السوري ينعكس في خطاب الرئيس بشار الأسد في السنوات الأخيرة، يمكن القول إنه يحمل مضامين أبعد من الشعار الذي رفعته الحركة التصحيحية لوزارة الأوقاف أي “خطاب ديني شبابي منفتح ومعتدل”، بل هو خطاب يؤكد ان الدين في صلب الحياة الاجتماعية للسوريين. صحيح أن الرئيس الراحل حافظ الأسد كان قد بدأ هذا المسار التقريبي مع الإسلاميين منذ سبعينيات القرن الماضي، إلا أنه كان متوجسًا من أنّ إطلاق الأحزاب سيفتح الباب لأن تتحول سوريا لوضع مشابه للبنان والعراق، خاصة في ظلّ التنوع الديني والعرقي في البلاد. أما اليوم، وفي خطوة مكملة إلى حدّ ما بعدما اتضحت الصورة لدى الرئاسة لا سيما بعد الحرب الكونية على سوريا، قال الأسد بشكل واضح ومباشر إن “مجتمعاتنا عقائدية وستبقى عقائدية”.

مبادرات الرئيس حافظ الأسد

سوريا ذات تنوع طائفي وعرقي مع أغلبية إسلامية سنية، وقد تربّع النظام العلماني البعثي على عرشه منذ العام 1966 بقوانين صارمة خنقت الفئات المتدينة من المسلمين، ثم بدأ عهد جديد من الحكم السياسي العلماني منذ العام 1970 مع استلام الرئيس حافظ الأسد زمام السلطة، الذي تميّزت سياسته بالتقرب من السنة، والتخفيف من العلمانية الصارمة، فقد قام الأسد بالحج إلى مكة عام 1974 ورفع رواتب رجال الدين السنة لتتحسّن أحوال معيشتهم، ودأبت صحف سورية على نشر صور الأسد في الصفحات الأولى وهو يؤدي الصلاة في المساجد في المناسبات الدينية والأعياد، كما أن أئمة المساجد مدحوه في خطب الجمعة، وازداد التراجع عن النهج العلماني بالتسامح مع حق المرأة في ارتداء الحجاب في المرافق العامة، وازدهرت المساجد والمدارس الدينية بشكل غير مسبوق، فيما سُمح للصحف والمجلات بنشر المقالات والدراسات التي تروج للدين، عكس ما كان عليه الوضع في الستينيات وحتى منذ ولادة سوريا الحديثة، وأصبح بعض رجال الدين المسلمين أعضاء مستقلين في مجلس الشعب، كما أن النظام حاول إقامة حزب إسلامي مؤيّد له في التسعينيات.

“سوريا تحت قيادة الأسد أصبحت ركيزة دعم لكل العالم الإسلامي”

من الشخصيات الدينية التي استجابت لمبادرات النظام نحو السنة، محمد البوطي، المؤلف الإسلامي ومقدّم برنامج على محطة التلفزة الرسمية، ومما قاله إنّ “سوريا تحت قيادة الأسد قد أصبحت ركيزة دعم لكل العالم الإسلامي، وإنّ مساجد دمشق، تزدهر ويؤمّها عدد متزايد من المصلين”. ومنهم أيضًا الشيخ أحمد كفتارو الذي تولى بعد وفاة والده عام 1938 الإرشاد والتعليم والدعوة والتربية الروحية. وقد تخرج وتربى على يديه مئات العلماء والدعاة والمفكرين والكتّاب في سوريا والعالم الإسلامي. كفتارو أصبح مفتي الجمهورية العربية السورية، ومن مواقفه أن “الإسلام هو القاعدة، وقوة سلطة النظام هي الحامي”، وأضاف أن الرئيس حافظ الأسد قد صارحه بأنّ الإسلام هو ثورة باسم التقدم.

تقرّب النظام من الإسلاميين هو ضمانة للعلمانيين

كانت مسايرة الدولة للمتدينين الإسلاميين، تقلق الفئات العلمانية من المجتمع السوري من سكان المدن الكبرى ومن الأقليات المسيحية ومن السائرات في حركة تحرر المرأة السورية، ولكن هؤلاء جميعًا رأوا في استمرار النظام ضمانًا لوجودهم، وأنّ أي تحدٍّ للنظام يؤدي إلى صعود الإسلام السياسي. صحيح أن المعارضة المدنية لم تحقق تقدّمًا يذكر في عهد حافظ الأسد، ولكنّ فرص نجاحها ستكون أسوأ لو آل الحكم للجماعات الإسلامية أو دبّت الفوضى الأهلية في سوريا كما كان حاصلًا في لبنان، ومهما كان من أمر، فالواقع أن قبضة الأسد الحديدية على النظام وانفتاحه على الأغلبية السنية أدى إلى استقرار النظام الذي حافظ على التعددية الدينية والعرقية في سوريا منذ العام 1970، ولم ينضح خطاب الدولة الوطني وتوجهها الإعلامي والتربوي بمفاضلة بين سنة وعلويين أو مسلمين ومسيحيين. وكان السكوت عن مراضاة المتدينين ثمنًا يدفعه الذين يؤيدون منحى العلمنة لكنهم سكتوا لأنهم يريدون الدولة القوية المستقرة.

ازدهار المواطنون السنّة

كان الوضع في عهد الرئيس حافظ الأسد، أن خرجت فئات سنية جديدة برعت في التجارة، حيث كان سنة المُدن تجار تاريخيًا، ويملكون مواهب التجارة والأعمال، فتولوا أرفع مناصب في الدولة من رئاسة الوزراء إلى وزارات سيادية ومواقع إدارية عليا، كما فُسح المجال لأبناء الأقليات العرقية والمذهبية للمشاركة في السياسة والاقتصاد.

واستمر هذا الوضع الجديد حتى بدأت الأمور تتغير منذ أواخر الثمانينيات عندما أخذت النخبة السنية تتجه نحو الانفتاح الاقتصادي والتحوّل نحو اقتصاد السوق، ما سيعزّز موقعها حتمًا، وأخذ الضخّ بهذا المنحى يتّسع مع المنتديات الاقتصادية في دمشق منذ 1990، فازداد بروز رجال الأعمال السنة في الحيّز العام من عضوية البرلمان إلى العمل السياسي والظهور الإعلامي. وكان الرئيس حافظ الأسد قد حرص على أن يكون انفتاحه الاقتصادي في أواخر الثمانينيات مفيدًا ومربحًا لسنّة المدن الذين ستتحسّن ظروفهم.

عام 2000 رحل الأسد الأب وواصل الأسد الابن سياسة والده في الانفتاح على المتدينين المسلمين، وزاد على ذلك تعاطفه العلني مع حركات المقاومة المناهضة للكيان المؤقت والولايات المتحدة في المنطقة، كما واصل الرئيس بشار سياسة والده في التخفيف من حدة علمانية البعث، وفي تموز 2003، صدر مرسوم يسمح للعسكريين بالصلاة في المعسكرات والمراكز العسكرية، وقد أصبحت ممارسة الشعائر علنية ومدعومة من القانون. كما سُمح للطالبات بارتداء الحجاب في المدارس، وكثرُت المظاهر الدينية ومناسباتها في المجتمع، وساهمت الدولة في بناء مساجد كبرى، وتم تعديل القانون لتدريس مادة الدين الإسلامي في المدارس.

الرئيس بشار الأسد: نحن العالم الإسلامي

ازدادت المقاربات الاسلامية في خطابات الرئيس السوري بشار الأسد منذ منتصف الحرب على سوريا، في الاجتماع الدوري لوزارة الأوقاف في جامع العثمان بتاريخ 7-12-2020، حيث ألقى الأسد خطابًا يعكس شجاعة واضحة بلغة واثقة ليس فيها تأويل عن فهمه الواضح واحتوائه للخصوصية الإسلامية في بلاده، فقد شمل نفسه وشمل بلاده عندما قال في بداية خطابه: “نحن العالم الإسلامي… لنبدأ بتحديد هذه الهوية”. ثمّ شمل نفسه وشمل علماء الدين الذين يخطب بهم عندما قال: “نحن من نتصدى لحماية العالم الإسلامي”، وبعد تحديد البيت الإسلامي ومن ثمّ تحديد سوريا كصاحبة البيت وحاميته، وصل الرئيس السوري إلى تحديد العدوّ، وهو “الليبرالية الحديثة”. وهنا وضع المؤسسة الدينية في مواجهة الليبرالية.

“يمكن فصل الدين عن الدولة في حالة واحدة عندما نفصل الدين عن المجتمع لأن الدولة تتجذّر حيث يتجذّر المجتمع”، قال الرئيس الأسد. ليصل إلى أن فصل الدولة عن المجتمع يخلق عدم الاستقرار.

وقد تضمّن الخطاب احتفالًا صريحًا بما أنجزه عندما سنّ قانون الأحوال الشخصية الديني واعتبره “قانوناً مهماً جدًا من أجل مأسسة العمل الديني”، فـ “الدين هو القانون الذي يضبط المجتمع” وأن مشكلة القانون الدولي هي الفوضى بسبب عدم وجود ما ينظّمه، وهنا بالتحديد يشير إلى دور النظام الشرعي والأخلاقي في سوريا المستقبل، الذي سيكون من أعمدة إعادة انبعاث السوري لكن بمنطلقات جديدة تناسب مرحلة ما بعد الحرب.

إصلاح المفاهيم الدينية الخاطئة يساهم في إصلاح المجتمع

يدرك الرئيس بشار الأسد أنّ عملية إعادة بناء ثقافي سياسي واجتماعي للداخل السوري توازي في أهميتها إعادة بناء وإعمار البنى التحتية والسكنية في سورية. وثمة تحديات كبيرة ومتسارعة جدًا من الناحية العقائدية، لا سيما مواجهة المعركة الفكرية. خلال استقباله وفدا من علماء الدين في شهر رمضان الماضي، تحدّث عن دور المؤسسة الدينية وعن المفاهيم والمصطلحات التي تطرح أحيانا من قبل البعض بمضامين مناقضة للعقيدة، وأهمية تبني علماء الدين للمصطلحات بالطريقة التي تناسب جوهر الدين ومقاصده، وقال إن “المفهوم العميق لمصطلح التجديد يعتمد على قدرتنا على أن نغرف من الدين أعمق ما نستطيع من العلم، انطلاقا من مبدأ أن القرآن الكريم هو لكل العصور والظروف”.

التغير الاجتماعي في سوريا

التغيير الاجتماعي ليس دائمًا إفرازًا موضوعيًا غير مُتدخل فيه، بل ثمة أطراف فاعلة تخطط له على رأسها النظام السياسي العام لمجتمع معيّن، أو بلد معيّن. يدرك الرئيس بشار الأسد أنه في بلد مثل سوريا، ذي تنوع طائفي وعرقي مع أغلبية إسلامية سنية، يدرك أهمية “مأسسة العمل الديني”، خاصة أن الاحتكاك الثقافي ووجود الفكرة والقضية العقائدية هي التي تبني المجتمعات.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.