سوريا امام مرحلة تاريخية جديدة

موقع العهد الإخباري-

جورج حداد:

جرت في اواخر شهر ايار/ مايو الماضي الانتخابات الرئاسية الجديدة في سوريا. وحسب المعطيات الرسمية شارك في الانتخابات اكثر من 14.225.000 ناخب من اصل اكثر من 18.107.000 مقترع مسجل. وكان المرشحون ثلاثة، احدهم الرئيس المنتخب بشار الاسد، الذي حصل على اكثر من 13.540.000 صوت، فيما حصل المرشحان الآخران على اكثر من 684.000 صوت. واحدهما، وهو محمود مرعي، هو شخصية بارزة في المعارضة الوطنية الديمقراطية في سوريا.

ويأخذ الكثير من اطراف المعارضة الديمقراطية السورية على هذه الانتخابات انها استمرار لعملية التوريث والاستئثار العائلي بالحكم، ومخالفة مبدأ المداولة الديمقراطية في السلطة. وهذا صحيح من زاوية نظر الآلية الميكانيكية والشكلية للعملية الديمقراطية. ولكنه من الصحيح اكثر ان القضية الوطنية العامة هي الاساس الذي تخضع له الآلية الديمقراطية، التي ينبغي ان تكون في خدمة القضية الوطنية، وليس ان تكون القضية الوطنية في خدمة الديمقراطية الشكلية. وهذا ما يحتم ان تكون الديمقراطية، في كل الظروف، ديمقراطية وطنية. وهذا ما ينطبق تماما على الانتخابات الرئاسية السورية الاخيرة. وفي هذا السياق لا بد من ايراد الملاحظات التالية:

1ـ ان جميع اطراف المعسكر العالمي المعادي، الامبريالي ـ الصهيوني ـ الرجعي والتكفيري، قد اتخذت مسبقا موقفا معاديا من هذه الانتخابات وراهنت على فشلها، وتطوعت مسبقا “للتنبؤ” انها ستكون انتخابات مزورة وضعيفة ومصحوبة بالحوادث الامنية الخ. واعلنت تلك الاطراف مسبقا عدم اعترافها بالانتخابات وشرعيتها. وهذا الموقف السلبي من قبل الجبهة المعادية هو بحد ذاته نقطة ايجابية لصالح شرعية ووطنية هذه الانتخابات.

2ـ وبالمقابل فإن جميع اطراف المحور الشرقي الجديد العظيم، المعادي للامبريالية الاميركية والغربية (ونواته: روسيا والصين وايران)، ومحور المقاومة العربي والاقليمي (وعلى رأسه الثورة الايرانية)، قد وقفت بوضوح وحزم الى جانب سوريا، قبل وخلال وبعد الانتخابات الرئاسية السورية.

وكان لهذه المواقف، الصديقة والمعادية، دور كبير في تحديد طابع هذه الانتخابات، وفي نجاحها والنتائج التي اسفرت عنها، والتي من المتوقع ان تحققها لاحقا.

3ـ لقد تمت العملية الانتخابية بنجاح، وحتى بشكل احتفالي، في جميع المناطق المحررة، وشارك فيها اكثر من 14.225.000 مواطن (اكثر من 78% من المقترعين المسجلين) مما يدل على رغبة وطنية شاملة في ولادة جديدة لسوريا.

4ـ لقد حصل المرشحان المنافسان للرئيس الاسد على اكثر من 684.000 صوت. وهذا رقم غير قليل بتاتا، وأمر مهم جدا، وهو يحدث لاول مرة في سوريا منذ اكثر من 50 عاما، ويدل على بداية تحول جدي في نمط الحكم.

5ـ وقد حصل الرئيس بشار الاسد على اكثر من 13.5 مليون صوت (ما نسبته اكثر من 95% من اصوات الناخبين الذين شاركوا بالانتخابات). واذا طرحنا جانبا “الانتقادات” التهويشية، المغرضة والمأجورة، فإن اي تحليل موضوعي يقودنا الى القول ان قسما كبيرا، وربما النصف، من هؤلاء الناخبين، الذين منحوا اصواتهم للرئيس الاسد، هم من غير المؤيدين للحزب الحاكم ولنظام الحكم، اي هم مزيج من المواطنين “الحياديين”، ومن انصار المعارضة السلمية فعلا، الذين ــ الى جانب البعثيين وانصار الحكم ــ يريدون جميعا الاصلاح والاستقرار واستكمال التحرير واعادة الاعمار والنهضة الحقيقية الجديدة لسوريا. اي انهم جميعا هم من الوطنيين التقدميين والقوميين والعلمانيين والاسلاميين الشرفاء، الذين صوتوا للرئيس بشار الاسد شخصيا، على امل تحقيق مشروع التغيير الاصلاحي، التحرري، الديمقراطي الوطني لسوريا. وهذا مما يحمّل الرئيس الاسد مسؤولية وطنية كبرى امام الشعب السوري بأسره، بكل طوائفه الدينية والمذهبية واطيافه السياسية. وفي هذا السياق لا بد من التذكير بالقضايا الكبرى التالية التي تواجه سوريا اليوم، ويقع على كاهل الرئيس الاسد وحكومته العتيدة واجب التصدي لها:

1ـ استكمال تحرير وتوحيد الاراضي السورية

ان ثلث الاراضي السورية، في الشمال والشمال الشرقي بالاضافة الى منطقة التنف، لا تزال تحت سيطرة الاحتلال الاميركي، والتركي، والعصابات التكفيرية الدولية والمحلية، والانفصاليين الاكراد المدعومين اميركيا. ويشترك المحتلون الاميركيون والاتراك واذنابهم الارهابيون والانفصاليون، في نهب الثروات النفطية والغازية والزراعية في شرقي الفرات، وحرمان الشعب السوري بأسره من ثرواته الوطنية.
وتظهر مهمة استكمال تحرير وتوحيد الاراضي السورية بوصفها المهمة الاكثر الحاحا وآنيةً امام الدولة والشعب السوريين، لان استمرار هذا الاحتلال يقطع الطريق على اعادة إعمار سوريا، ويعطي الفرصة للاعداء من جديد لتحويل هذه المناطق المحتلة الى مركز تجمع ضخم للارهابيين التكفيريين والمرتزقة من كل انحاء العالم، وللانفصاليين الاكراد، وتسليحهم بالاسلحة المتطورة، بما فيها الدبابات والمدفعية الثقيلة وبعيدة المدى والصواريخ و”المطيّرات” (الدرون)، وشن حرب استنزاف حدودية او حرب توسعية جديدة ضد المناطق السورية المحررة.

وبالطبع ان استكمال تحرير وتوحيد الاراضي السورية لن يكون مهمة سهلة لا سياسيا ولا عسكريا. فاميركا، وتركيا ــ اللتان كانت لهما اليد الطولى في تشكيل الجيش الارهابي الداعشي الدولي الذي سبق وهاجم سوريا والعراق تحت ستار “المعارضة” ــ تبرران الان احتلالهما اللاشرعي للاراضي السورية، باستمرار وجود العصابات الارهابية، التي سبق لهما هما بالذات ان اوجداها في سوريا. كما ان المحتلين الاميركيين يدعمون الانفصاليين الاكراد متسترين بشعار “حق تقرير المصير للشعوب”؛ في حين ان المحتلين الاتراك يبررون احتلالهم للاراضي السورية بحجة حماية الامن القومي التركي من “الارهاب الكردي”.

وبسبب تعطيل وحرف عمل هيئة الامم المتحدة وغيرها من المؤسسات الحقوقية الدولية، بفعل الهيمنة الاميركية، فإن الاحتلالين الاميركي والتركي للاراضي السورية يجدان دعما اقليميا ودوليا معينا، بحجة مكافحة الارهاب!.

من هنا تنشأ ضرورة تفكيك السلسلة المركبة للاحتلال الاميركي ــ التركي ــ الارهابي ــ الانفصالي في شمال وشمال شرق سوريا ومنطقة التنف، وتحطيم هذه السلسلة حلقة حلقة. وهذا يقتضي:

اولا ــ إضفاء الطابع الوطني ــ الشعبي العام على مهمة استكمال تحرير وتوحيد الاراضي السورية. ولهذه الغاية ينبعي اقامة الندوات التنويرية والتجمعات والمظاهرات الشعبية في كافة المدن والقرى السورية، وانشاء جيش شعبي ضخم لتحقيق هذه المهمة، يتم تسليحه بجميع الاسلحة الضرورية، كي يقوم هذا الجيش بشن حرب شعبية حقيقية واسعة ومتدرجة ضد جميع المحتلين والارهابيين والانفصاليين، جنبا الى جنب القوات النظامية للجيش العربي السوري، والقوات الحليفة لسوريا.

ثانيا ــ إعطاء الاولوية لمهاجمة وتحرير المناطق التي يسيطر عليها الارهابيون، للقضاء عليهم من جهة، ولنزع حجة “مكافحة الارهاب” من ايدي المحتلين الاجانب من جهة ثانية.

ثالثا ــ عقد مؤتمر وطني عام لممثلي مختلف القوى الوطنية الديمقراطية السورية، لدراسة القضية الكردية في سوريا، يصدر عنه برنامج وطني يتضمن منح الحقوق المشروعة، المواطنية والثقافية، للاخوة الاكراد، مع التمسك بوحدة وعروبة كل الارض السورية، وان يتم الكفاح السياسي والمسلح، الشعبي، ضد الانفصاليين الاكراد اذناب الاحتلال الاميركي، تحت سقف البرنامج الوطني الموحد حول القضية الكردية.

رابعا ــ بمواجهة المساعي الاميركية والغربية المحمومة لعزل سوريا وخنقها، وتبرير احتلال اراضيها، تبرز اهمية العمل لكسر هذا الحصار، ولا سيما عن طريق توثيق علاقات سوريا مع محور المقاومة الذي هي جزء رئيسي فيه، وتعميق التعاون الاقتصادي والثقافي والسياسي والعسكري مع روسيا والصين وايران، واقامة اتفاقيات “دفاع مشترك” معها.

خامسا ــ واخيرا لا آخرا: شن حرب تحرير شعبية ضد الاحتلال الاميركي والتركي، مما هو حق مشروع لكل شعب تحتل اراضيه.

2ـ الكفاح لاجل تحرير الجولان المحتل

لقد كانت هزيمة 5 حزيران/ يونيو 1967 افظع كارثة تحل بالامة العربية في التاريخ الحديث. ونتج عن تلك الكارثة الاحتلال الاسرائيلي للقدس وكامل الارض الفلسطينية، ولسيناء حتى ضفة قناة السويس، وللجولان السوري حتى مشارف دمشق.

3ـ الوحدة الوطنية والديمقراطية:

لقد نجحت القوى الوطنية العربية، اليسارية والقومية والاسلامية الشريفة، في القضاء على الاستعمار الكولونيالي الغربي القديم، الذي اناخ على مختلف البلدان العربية، قبل الحرب العالمية الاولى وانهيار الدولة العثمانية، وخصوصا بعده. وذلك باستثناء دولة الاستعمار الاستيطاني “اسرائيل”، التي أنشئت بقرار استعماري دولي، وافقت عليه القيادة الستالينية الخائنة للشيوعية في 1947، بموجب اتفاقية يالطا التي وقع عليها ستالين، والتي قضت بفرض الهيمنة الامبريالية الاميركية على “العالم الغربي” والموالي للغرب.

وخلال مرحلة الكفاح من اجل الاستقلال، ضد الاستعمار القديم، كانت الصفة الغالبة للعلاقات بين القوى الوطنية المناضلة، هي التعاون والنضال المشترك ضد المحتلين الاستعماريين.

وبعد نيل الاستقلال السياسي في مختلف البلدان العربية، وصلت القوى الوطنية، القومية والتقدمية، الى الحكم، في العديد من البلدان العربية، وطرحت الشعارات الكبرى حول الوحدة العربية، والتأميم، والاصلاح الزراعي، والتسيير الذاتي (الجزائر)، والاشتراكية العربية، وحتى الاشتراكية على الطراز السوفياتي (جمهورية اليمن الدمقراطية الشعبية الجنوبية السابقة).

ولكن وصول القوى الوطنية الى السلطة، بمقدار ما كان ضرورة تاريخية وانتصارا للخط الوطني ــ التقدمي والقومي ــ في الحركة الاستقلالية، حمل في الوقت ذاته مرضا سرطانيا، اصاب مختلف فصائل حركة التحرر الوطني العربية، إذ ان السلطة الجديدة بامتيازاتها اصبحت غاية بحد ذاتها، وليست وسيلة، مما أفسد العلاقات بين الفصائل الوطنية المناضلة، وزرع الشقاق في صفوفها، وبدأت مرحلة سوداء من القمع وكبت الحريات والانشقاقات غير المبدئية والالغاء المتبادل وحتى التذابح فيما بين مختلف الفصائل الوطنية في مختلف البلدان العربية.
***
ان الارض العربية، وفي القلب منها سوريا الطبيعية الكبرى، هي مهد الحضارة الانسانية، بكل تنوعها وغناها. وتقدم هذه الارض، جغرافيا وتاريخيا، لوحة شديدة التنوع والتعددية، عرقيا، واثنيا، ولغويا (اللغات الاصلية للشعوب القديمة التي تبوتقت في اللغة العربية، وتجد انعكاسها في مختلف اللهجات العربية العامية)، وثقافيا، وفكريا، ودينيا، ومذهبيا، وتقاليديا، واجتماعيا، واقتصاديا، وطبقيا الخ.
وبحكم المنطق التاريخي، تنعكس هذه التعددية او تجد تعبيرها السياسي في تنوع الحياة السياسية، وتعدد الاحزاب والمنظمات، وتعدد الاتجاهات والاراء داخل كل حزب او تنظيم بعينه. وبحكم المنطق التاريخي ايضا ان الديمقراطية الوطنية هي الوعاء الصحي الطبيعي الوحيد الذي يمكنه ان يستوعب هذه التعددية الغنية للامة العربية، بمفهومها الحضاري التاريخي… الوعاء الطبيعي الذي يوحد الامة بوجه الاعداء الخارجيين وعملائهم في الداخل، والذي يضع الامة العربية في مكانها الطبيعي في المسيرة الحضارية للانسانية. ولقد كان نهج القمع والابعاد والتسلط وسحق الرأي الآخر نكسة كبرى في النهضة القومية والمسيرة التحررية والتقدمية للامة العربية.

وسوريا اليوم، بعد الانتصار الكبير على نهج الالغاء المطلق، النهج التكفيري (داعش واخواتها) المرتبط بالامبريالية والصهيونية والعثمانية الجديدة والسعودية، هي مؤهلة كي تقدم مثالا نموذجيا للحكم الوطني الديمقراطي ومركز استقطاب للامة العربية جمعاء. والشعب السوري، عبر النتائج التي اسفرت عنها الانتخابات الرئاسية الاخيرة، يلقي اليوم على عاتق الرئيس بشار الاسد المسؤولية الاولى للقيام بهذه المهمة التاريخية الكبرى، الوطنية والقومية، الانسانية والدينية.
(*) كاتب لبناني مستقل

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.