شكراً «عبودي»

martyr-abdekarimhodroj

صحيفة الأخبار اللبنانية ـ
سجى مرتضى*:

الساعة 11:51، ليل الاثنين الماضي، سقط الحزن فجأةً مزهواً بطعم الأمل. لحظة من الحقد الأعمى، قرّر فيها القاتل أن نكون نحن ضحاياه. اختارنا نحن، لنمهّد الطريق لظلمه القادم، واختار منّا عبودي (الشهيد عبد الكريم حدرج)، ظنّاً أنه سينتصر بقتله، من دون أن يدرك، أنّ الحياة تحبنا، وتريدنا، لأننا نستحقها.

الساعة 11:51، قرر القاتل أن يغيّر مخططات أيامنا المقبلة. قررّ أن يحرمني مناقشةَ مشروع تخرجي في اليوم التالي، وقرّر أن يخرجني وعائلتي من منزلنا رغماً عنا، أن يدخلنا إلى المستشفى، أن يفقدنا جارنا عبودي، وأن يشحننا بكمّ رهيب من الحزن.
الساعة 11:51، قرّرت ذاكرتي للمرة الأولى ألّا تخونني. ألّا تمنحني ولو قدراً بسيطاً من النسيان، ليحتلّ مشهد الانفجار عينيّ ويجعلني لا أبصر الّا الدمار، والدماء، وابتسامة عبودي.
كنت كالجميع، معتادةً مشاهدةَ الموت على شاشة التلفاز. لكن في تلك الليلة، كنت أرى موتنا قريباً. براءة أختي حوراء وعفويتها دفعتاها إلى الظن أنّ طيش بعض الشباب اللبناني كان السبب في ما حصل. «أنا أكره البرازيل»، جملة سمعتها مرّات عدة منها منذ رأيت الزجاج يتساقط علينا، وحملنا دماءنا ومضينا. ليست الفرحة بفوز البرازيل، ولا «إصبع الديناميت» هو السبب يا حوراء. هو القاتل، بثلاثين كيلوغراماً من المتفجرات يحاول تدمير رغبتنا في الحياة، هو القاتل، يحاول منعنا من الاستمرار. هو القاتل يا حوراء، وليست مباراة البرازيل، للأسف.
«نحن على قيد الحياة»، عبارة أخرى سمعتها من والدتي وهي تطمئن الأهل والأصدقاء في المستشفى. يحاول الأطباء هناك تهدئتي: «لا تخافي، بعض الجروح فقط ستكونين بخير». فكرت حينها، أطباء أغبياء، صرخت في وجههم من دون وعي «مش خايفة، أنا مقهورة. مقهورة كثير». عبارة ثالثة علقت في ذهني حينها أيضاً: «عبودي مختفي»… فكرت كطفلة صغيرة «عادي، بكون سهران عم بحضر ماتش البرازيل ومش عارف شي». كم كنت غبيّة أنا أيضاً.. لأن عبودي استشهد، قرر أن يستغني عن الماتش لينقذنا، هكذا أخبرتني بعد ساعة من مغادرتنا المستشفى دموع أختي زهراء.
رحل عبودي إذاً. قرّر أن يوفّر على عشرات العائلات فاجعة عائلته. قرّر أن تبقى أصوات الفرح بالمونديال تعلو من مقهى «أبو عساف»، وأن تبقى نارجيلته المشهورة مقصد الشباب. قرّر أن أبقى أنا وعائلتي على قيد الحياة. وقرّر أيضاً أن يعطي والده شرف أن يزفّه شهيداً، كما زفّ سابقاً شقيقه رضا شهيداً للحزب الشيوعي في مواجهة العدو الإسرائيلي على مثلث خلدة. فضل حدرج، والد الشهيد، وأخو الشهيد، قال لنا وهو يقبّل جبين كلّ منّا، حين ذهبنا في اليوم الثاني من الانفجار لنتفقد دمار منزلنا: «المهم انتو بخير حبيباتي، يروح ابني ولا يروح حدا غير. ما تعرجو، ولو مجروحين، كونوا قبضايات». هذا ما قاله، سامحاً لنا منذ اليوم بأن نناديه جميعنا «بابا فضل».
دخلت قطة عبودي إلى منزلنا، ركض والده خلفها خوفاً من أن تجرح وهي تمشي على الزجاج الذي غطى الأرض. «هيدي بسينة الغالي، ما بستغني عنها، مبارح وقفت تطلّع ع صورتو، بتحبو كثير». ثم أضاف: «ممنوع حدا يبكي، ابني بطل».
عذراً بابا فضل، لم نستطع أن نخفي دموعنا. عبودي بطل، لكننا نحن الخاسرون. نحن من أهلكنا الألم والفقدان والخوف، ونحاول جاهدين أن نتخلص من كل هذا العجز بالدموع. تحضنني مدلّلة عبودي الصغيرة، أخته يارا. تقول لي وهي تبتسم: «لازم ننبسط، انبسطي، لأن عبودي مبسوط». عبودي، يا ابتسامة يارا، وفخر فضل.. شكراً. لكن كيف سنكافئك؟ كيف سنشكرك؟ أنت الذي اخترت موتك لتحيينا، أنت الذي اخترت رحيلك لنعيش نحن بعد ذلك اليوم، مفجوعين بقدر هائل من الأمل والحنين.
أيام مرّت على الانفجار، نحن اليوم أقوى من أيّ وقت مضى. ابتسامة شباب قهوة «أبو عساف» تصبّرنا، صراخ ذلك العجوز، جارنا في المبنى المجاور: «الحمدلله عالسلامة يا أولاد مرتضى» تقوّينا. إكليل الورود على سيارة عبودي المتفحمة وصورته الكبيرة تحت المبنى المنكوب، تعزّينا، وبطولته تجبرنا على الوقوف صابرين، محتسبين، ترافقنا الصلاة، والدعاء بأن لا يفجع القاتل أحداً غيرنا.
أيها القاتل، نحن نستحق الحياة، نحن نقدّسها تماماً كما نقدّس الشهادة. أيها القاتل، نحن كلما نزفت أجسادنا دماً، امتلكنا قدرة أكبر على الحب. نحن أيها القاتل، الذين حرّرنا الجنوب من احتلال لم تواجهوه يوماً، نحن الذين هزمنا عدواً اخترتموه صديقاً لم يملأكم إلا حقداً وكرهاً وظلماً بينما نحن بانتصارنا عليه ملأنا حباً وصبراً وتضحيةً وعطاء. منّا نحن، غنّت فيروز لأمل لم تدركوه يوماً، لأمل قوّته الدماء والدموع والخوف، لأمل منتصر. منّا نحن كان عبودي الذي طعنك وقتلك بابتسامته، قبل أن تهديه جنّة لحظة ظننت أنك تهديه النار.
ستفهم يوماً أيها القاتل، أن عبودي ولد لحظة استشهاده، وأن في كل منزل من منازلنا يولد عبودي آخر، سيقف في وجهك أيضاً يوماً ما، ليقول لك: «كلما سلبتنا حياة، سيهبنا الله حياة أخرى».
* ناجية من تفجير الطيونة في 23 حزيران الجاري

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.