عقيدة “المسادة” اليهودية

israeli-soldiers-crying1

صحيفة الخليج الإماراتية ـ
فيصل جلول:

يكتشف الصهاينة هذه الأيام أن 8 أعوام من التحضيرات العسكرية والدروس المستخلصة من حرب لبنان عام 2006 ذهبت هباء منثوراً، وأن ما كان قائماً في تلك الحرب مازال قائماً اليوم . فلا القبة الحديدية استطاعت أن تحمي “الإسرائيليين” في كتلتهم السكانية الأكبر بين القدس و”تل أبيب” ولا الجيش البري الذي أجرى تدريبات دورية قاسية خلال الأعوام الفائتة استطاعت نخبته العسكرية في لواء غولاني أن تصمد طويلاً مع مقاتلي المقاومة . ولا تدريع الدبابات التي أصيبت كالبط عام 2006 جنبها ضربات المقاومين . أما سلاح البحرية الذي ضرب من قبل، فلم ينج هذه المرة أيضاً من الإصابة المحققة عندما جرب إنزال مارينز صهاينة على شواطئ غزة .
هذا وقد فوجئ سلاح الجو ب”الدرونز” الفلسطينية التي اخترقت الأجواء الصهيونية للحصول على معلومات واحداثيات للقصف الصاروخي . وحدها الطائرات الحربية حققت انتصارات على المدنيين، تماماً كما فعلت في لبنان .
هذا الفشل الكبير في أسلحة القتال المختلفة في غزة تم في ظرف مثالي للحكومة “الإسرائيلية” فهي تقاتل في ظل صفوف عربية مشتتة ومنقسمة أو متحاربة جراء “الربيع العربي” وبأسلحة جديدة وعلى أثر مناورات مع القوى العظمى ووفق أفضل الخطط العسكرية في العالم .
ويأتي هذا الفشل الكبير أيضاً وسط إجماع صهيوني على خطة الحكومة الحربية فريد من نوعه في تاريخ الحروب ضد العرب وفي ظل حكومة يمينية متطرفة لم تشهد تل أبيب مثيلاً لها منذ حكومة مناحيم بيغن التي اجتاحت لبنان عام 1982 .
وأخيراً، يأتي هذا الفشل وسط تأييد عالمي صريح أو مضمر لحكومة نتنياهو المتطرفة التي لم تكن الدول الغربية تطيق سياستها قبل الحرب، خاصة القسم المتعلق بالمفاوضات مع السلطة الفلسطينية حول مشروع الدولة المستقلة .
يبقى إذاً نجاح آلة الحرب الصهيونية ماثلاً في قتل المدنيين وتدمير بناهم التحتية، وهو فشل ذريع بالمقاييس الحربية ووفق القانون الدولي الذي يعتبر التعرض للمدنيين جريمة حرب .
قصارى القول إن الدولة العبرية فشلت في حرب غزة رغم توافر الظروف التقنية والسياسية والاقتصادية والدولية والعربية، وبعد 8 سنوات من الاستعدادات المتواصلة، فإلى ما يقود هذا الفشل أصحابه؟ يقودهم إلى السلام مع السلطة الفلسطينية والهدنة مع فصائل المقاومة، كما يأمل كثيرون، أم إلى المزيد من العناد والمزيد من التطرف والإصرار على الحرب طلباً لنصر لن يلوح في الأفق، ما دام المقاتلون هم أنفسهم، ومادامت وسائلهم وتكتيكاتهم وتصميمهم واحد؟
الواضح أن تركيب الحكومة الصهيونية الحالية يتنافى تماماً مع أي انعطاف باتجاه “السلام” مع حكومة محمود عباس، والأسباب كثيرة من بينها أن معظم الوزراء يمثلون الكتلة الاستيطانية في “إسرائيل”، وهذه الكتلة لا تريد السماع باسم الدولة الفلسطينية، لذا، ما كان مستغرباً أن تشن الحرب على غزة بضغط منهم، وذلك بعد مقتل ثلاثة من شبانهم في الضفة الغربية، واتهام “حماس” اعتباطاً باختطافهم وقتلهم . والسبب الثاني يتصل بالمأزق “الإسرائيلي” التاريخي والذي يمكن تلخيصه بمعادلة: عندما تكون الدولة قوية لا ترى جدوى من التنازل لأعدائها، وعندما تكون ضعيفة ترى أن التنازل يقوي الأعداء ولا يضمن طي صفحة فلسطين التاريخية . والسبب الثالث سيكولوجي، ذلك أن الاستيطان الصهيوني واحد وفي كل الحقبات، وقد خلق في اللاوعي “الإسرائيلي” اعتقاداً أشبه باعتقاد السارق الذي سطا على ملكية لغيره، واعتبر بعد وقت أنها ملكيته بالتقادم وبالتالي لا يحق لأحد استعادتها طالما هو قادر على حمايتها بالقوة، أضف إلى ذلك أن الصهانية يعيشون بنفسية سكان القلعة المحاصرة الذين صادروا فلسطين ويتمسكون بها داخل الكيان القلعة، وكل حادث خطف أو كل صاروخ يسقط في القلعة يكون وقعه رهيباً على الجميع، وليس على المتضرر مباشرة . إن نفسية السارق المتحصن بقلعة لا تتيح الانخراط في عملية سلام يستعيد فيها الفلسطيني صاحب الأرض جزءاً من أرضه المسروقة، لأن عودة الجزء تعني بنظر لصوص الأرض دليلاً على وجوب عودة الكل، ولذا، ليس مستغرباً أن يزعم الناطقون باسم الحكومة الحالية والحكومات السابقة أن شرعية مستوطنات الضفة الغربية لا تقل أهمية عن شرعية “تل أبيب” . والسبب الرابع يكمن في التراجع الكبير في نظام القطب الواحد وخوف الصهاينة من أن يؤدي ضعف الولايات المتحدة المتزايد إلى خسارتهم بعضاً من ضمانات الحماية الدولية، وبالتالي إصرارهم على استخدام القوة ولا شيء غير القوة للبقاء على قيد الحياة، مع فارق أن هذه القوة ما عادت اليوم قادرة على ضمان مستقبلهم بعد حروب لبنان وحروب غزة .
إن منطق رفض التسوية واختيار الحرب والقوة كوسيلة للوجود قد يقود آجلاً أم عاجلاً إلى عقيدة المسادة، وهي مستمدة من أسطورة يهودية تقول إن القائد الروماني الكبير هيرودوس بنى قلعة على قمة جبل المسادة المشرف على البحر الميت ليحتمي به وهو الحصين إذا ما تعرض للملاحقة، لكن مجموعة من “اليهود المتطرفين” الذين تمردوا على الرومان احتلت الموقع، ومن بعد استقبلت اليهود الذين كانت تقمعهم السلطات الرومانية إلى أن حوصروا في قلعة المسادة وقرروا الانتحار الجماعي على السقوط في أسر عدوهم الروماني، علماً ان كثيرين يطعنون بصحة هذه الاسطورة ومنهم علماء آثار صهاينة لم يجدوا أثراً لحياة بشرية في هذا المكان .
كائناً ما كان مصير المسادة الأولى وبغض النظر عن حقيقتها، يبدو أن متطرفي اليهود المعاصرين، وبخاصة الكتل الاستيطانية الحديثة على خطوط التماس يقودون يهود اليوم في الكيان إلى مسادة معاصرة هي أبعد ما تكون عن الأساطير . . هذا إن لم يستدرك العلمانيون بينهم ويهربون من المسادة إلى خيار الأقدام السود الذين استوطنوا الجزائر وخرجوا منها بعد أن انهارت قوتهم العسكرية في شهور معدودة .

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.