فيِ فِكرةِ الحُرّيةِ وجبروتِها

imam-khomeini

صحيفة الديار الأردنية ـ
مروان سوداح (كاتب وصحافي أردني مسيحي):
لم تسْلَم منطقتنا الأوسطية منذ السبعينات الفارطة منِ قرنٍ انقضى والى اليوم، لا بل ومنذ عشريات وقرون قبلها أيضاً، من هجمات الإقطاعية الغربية، والإحتلالية الصهيونية المندمِجةِ وإيّاها، مروراً بمساعٍ بذلها الدوتشي وتعدِّيات الفوهرر لإستعمارها وإذلالها. وفي مواجهة هذا العسف الأجنبي برز عديدون مِن المفكّرين والقادة والمُحَررين للأُمتين العربية والإسلامية، مِن مسلمين ومسيحيين، جاهدوا لإعادة ثقة الأُمة بنفسها وقِواها الذاتية، وبعثها بفكرة الوحدة والتوحيد والتحرر الوطني والإجتماعي وجعلها بشقِّيها متلازمة وموضوعة متشابكة تشد بعضها أزر بعض.
واليوم إذ تتكالب القوى الخارجية على الأمة بأيادٍ أعرابية ضالعةٍ في مُخَطِّطِها الإلحاقي ومغموسة في دماء أبنائها حتى الثمالة، تستفيق الأُمة مِن غفوتها الطويلة على أفكار عَمرّت بنيانها العالية في عشريات مَضت، وبرغم بقائها في حدود أخرى بعيدة عن أولوياتها اليومية التي فُرضت عليها، إلا أن الواقع المرير الذي نعيشه والاقتتال الذي نشهد بات يستعيد ذكريات حِقب ستبقى خالدة خلود الفِكرِ وماضية مَضاء القلم الذي نقلها الى وريقات، فاكتسبت قوة مادية في اعتناق الجماهير لها. فمنذ عام 1979 طرأت على المنطقة الأوسطية تغيّرات واسعة في السياسة والتحالفات والتغيّرات الإقليمية والعلاقات الدولية إتجاهها، وبعد أن كانت المنطقة عامرة بالنفوذ الأمريكي وسطوة الشرطي الصهيوني، قامت الثورة الإيرانية مُجَلّلة بالمجد لتضع حداً للعربدة الأجنبية والإملاءات الإستعمارية الفالتة مِن عِقالها، وعاد الخميني الى وطنه تلبية لمطالب شعبه وجماهيره التي خرجت بالملايين لملاقاته ونصرته والانتصار لفِكرهِ ودعواته التحررية، فاقتُلِعت سفارة الكيان من طهران، وجُرِّدت إسرائيل مِن مَخفر أمامي مًشرفٍ على المنطقة ومانعٍ للتحولات السياسية العميقة فيها، وطُردت أمريكا والأمريكيين من إيران، فكان كنسٌ نهائي.
كانت الهبّة الشعبية المليونية التي شهدتها مدن وقرى إيران والعمق الإيراني والتي لم تشهد البشرية مَثيلاً لها في تاريخها الطويل منذ عصور الامبرطوريات، دليلاً كافياً ومقنعاً على قوة الفكرة التي أعلنها الخميني من منافيه، وتأكيداً حاسماً على قدرتها الخلاّقة على التغيير والحسم لصالح الجماهير والشعوب، بشرط أن تتحول هذه الفكرة الى قوة مادية تعتنقها هذه الجماهير والشعوب، فتتقدم بها الى معارج النصر غير آبهة بالاستشهاد. لقد شكّلت هذه الفكرة وستبقى تشكّل خطورة كبرى على المستعمِرين (بكسر الميم الثانية) والمستضعِفين (بكسر العين) للشعوب، لذا نراهم يعملون في سبيل إضعافها من خلال كسر شوكتها وتحريف منطلقاتها ومنابعها وفكرها تسييداً لطبائع الاستبداد التاريخي خاصتهم.
ففي الذكرى الثالثة والثلاثين لإندلاع الثورة الإيرانية، أذكر كيف عاد الخميني الى وطنه مُجلّلاً بمجد شعبه ومُحَاطاً حدبه، منذ خطواته الأولى على سُلُّم الطائرة، وكيف التفّت الجماهير مِن حوله حامية ومؤازة ومعظّمة إياه، فقد بدت تلكم اللحظات وكأنها تجسيد للخلود الأبدي وربما الأزلي وتجلياً لإدراك الزمن ووعيه(!)، فقد شكّلت الطائرة الحاملة للإمام المُعَلّم مَعلماً مِن المَعالِم الرئيسة في التاريخ، وستبقى تذكّر بإنجاز شعبي انسحبت تأثيراته على العالم أجمع. والسؤال الذي يطرح نفسه بالحاح هو لماذا اختار الشعب الايراني أحد علماء الدين ليقوده، بعدما أطاح بالحكم البهلوي؟. ربما تكون الإجابة بأن الشاه المخلوع كان ابتعد كثيراً عن شعبه فلم يعد مجدياً التواصل معه، هو وبطانته كلها، فقد نأى الامبرطور بنفسه عن المطالب الشعبية، وعزز مواقع الشر في إيران ممثلة بمحطات صهيونية واستعمارية عسكرية وأمنية قامعة للشعب الايراني والامتين العربية والإسلامية، فعمّت الكراهية والفساد والإفساد ولم يَعد مِن مجال للمناشدة والإصلاح.
قال “المطران خليل أبي نادر” المُثلث الرحمات، عن الخميني بألسنة المسيحيين: سيبقى آية الله الخميني رجل التاريخ الأمثل لكل حاكم صالح، لا نظير له ولا سابق له، إذ كان يرى هو في حُكمه، في تطلعاته مصلحة الشعب، نابذاً بإباء وكبر منفعته الخاصة. وكان أن فهمه الشعب الكبير فسار على دربه خطوة خطوة لأنه أمله المرتجى. على الحاكمين أيضاً، أن يقتفوا أثره ويعانقوا فكره وينتهجوا سياسته. تسلّم الحكم بثورة، وكأنه يخاطب الشعب، حتى اليوم، بكلام السيد المسيح “تعالوا إلي يا جميع المُتعَبين وحاملي الأثقال وأنا أُريحكم”. في الكنيسة لنا القديسون. وفي الإسلام لنا الصديقون والائمة المبشّرون عملاً  وروحاً ورسالةً وفداءً. ليس الخميني واحدهم فحسب، هو قدوتهم هو رمزهم، وهو لنا المِثال.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.