في ذكراه المشؤومة .. وعــد بلفــور تجسيد فكرة الاستيطان

صحيفة البعث السورية-

د. معن منيف سليمان:

يعدّ وعد بلفور المشؤوم في الثاني من تشرين الثاني عام 1917 تجسيداً لفكرة “توطين” اليهود في فلسطين عند زعماء الاستعمار الغربي الذين نادوا بها لدوافع استعمارية، وذلك بقصد احتلال بلاد المشرق العربي عن طريق المناداة بضرورة تجميع الجماعات اليهودية في فلسطين، وإقامة كيان لهم فيها، وعندما راجت هذه الفكرة في الأوساط الاستعمارية الأوروبية، كان الصراع الامبريالي الاستعماري محتدماً حول اقتسام ممتلكات الإمبراطورية العثمانية، وكان الصراع على أشده بين بريطانيا وفرنسا وروسيا القيصرية، ورأت بريطانيا أن فكرة توطين الجماعات اليهودية في فلسطين ستمكنها من الدفاع عن مصالحها الاستعمارية في الشرق.

وانطلاقاً من هذا الأساس، سعت الأوساط الحاكمة البريطانية من أجل توطين اليهود في فلسطين منذ الأربعينيات من القرن التاسع عشر عندما احتل محمد علي باشا منطقة بلاد الشام، ولذلك حاول اللورد “بالمرستون”، وزير الخارجية البريطاني آنذاك، إخراج محمد علي باشا من سورية، في إطار مساعيه الرامية إلى الحفاظ على الدولة العثمانية، ذلك أن روسيا القيصرية وفرنسا كانتا تتلهفان لسقوط الدولة العثمانية أملاً في الحصول على مغانم من تركة الإمبراطورية المنهارة، ما دفع “بالمرستون” إلى البحث عمن يحمي المصالح البريطانية في الشرق العربي، فوجد ضالته في الجماعات اليهودية، وذلك بتأسيس كيان لهم في فلسطين يقتطع من جسم الإمبراطورية العثمانية ويعطى لهذه الجماعات.

وفي هذا السياق، قدم اللورد “شافتسبري” السياسي البريطاني مشروعه الذي أعده منذ زمن وأطلع “بالمرستون” عليه، وهو استيطان الجماعات اليهودية في فلسطين تحت الحماية الأوروبية، وقد اهتم اللورد “بالمرستون” بمشروع “شافتسبري “وعينه قنصلاً لبريطانيا في القدس عام 1834، وذلك لحماية المصالح البريطانية في الشرق أولاً، والاهتمام بتشجيع اليهود للهجرة إلى فلسطين ثانياً.

كان” بالمرستون” يرى أن الوجود اليهودي في فلسطين يحقق مكسبين للمصالح البريطانية: مكسب مباشر وهو وجود مجموعة موالية لبريطانيا في المنطقة ليس لها فيها من يواليها، ومكسب غير مباشر وهو تدفق رأس المال اليهودي للسلطان العثماني بهدف دعم نظامه الاقتصادي المنهار، فيصبح السلطان طوع السياسة البريطانية – اليهودية.

وبشكل مشابه، نشط في هذا المجال أيضاً الكولونيل “تشارلز هنري تشرشل”، وكان ضابطاً في قيادة قوات الحلفاء في حربها ضد محمد علي باشا، والقنصل البريطاني في دمشق فيما بعد عام 1941، فقد رسخ هذا الكولونيل العقيدة السياسية البريطانية، ولفت الانتباه إلى أهمية فلسطين بالنسبة للمصالح البريطانية في الشرق عندما قال: “لأسباب جلية يجب أن يكون واضحاً لكل عقل انكليزي أنه لتدعيم سيادة انكلترا في الشرق يجب إدخال سورية ومصر إلى هذا الحد أو ذاك ضمن نطاق سيطرتها أو نفوذها.. لقد أعلن نابليون أن عكا هي مفتاح الشرق، وقد قدرت عبقريته العسكرية، بصورة صائبة تماماً، أهمية تلك الأراضي التي حاول عبثاً دخولها كقاعدة للعمل ضد إمبراطوريتنا الهندية، بناء عليه فإنني أدعو أبناء وطني إلى تبني هذه العقيدة السياسية، وإلى تعليقها على علم البلاد”.

وفي هذا السياق أيضاً وضع “جورج جاولي” حاكم استراليا الجنوبية، وخبير الاستيطان الاستعماري، مشروعه لاستعمار فلسطين في عام 1845، حيث أعلن أمام أعضاء البرلمان البريطاني المنعقد في عام 1853، عن أهمية استيطان فلسطين بالنسبة للمصالح البريطانية، وقبل ذلك كلفت وزارة الخارجية البريطانية “ابراهام بنيش” بوضع كتاب يحدد فيه دور بريطانيا في دعم اليهود في الشرق، وقد حمل كتابه عنوان “مخطط لتحسين الظروف المدنية والأخلاقية لليهود في الشرق”، شرح فيه دور بريطانيا في هذا المشروع، وقدرتها على دفع السلطان العثماني إلى السماح بالهجرة اليهودية إلى فلسطين، ولعل من أهم ما جاء في هذا الكتاب قوله: “ستكون المستعمرة تحت سلطة الحكومة التركية وحمايتها، وتضمن بريطانيا المحافظة على الشروط التي ستقام عليها”.

وقد تجلى الدور البريطاني الفعلي من خلال دعم النشاط الاستيطاني اليهودي في فلسطين، عندما دعمت الحكومة البريطانية نشاط السير “موشي مونتفيوري” اليهودي البريطاني الثري وابن إحدى العائلات اليهودية العريقة في بريطانيا، وقد أضيف إليه دعم شخصي من قبل الملكة فكتوريا.

ومنذ مطلع القرن العشرين جرت تطورات وفقاً للخطط الاستعمارية المتنافسة المتصارعة، حيث دخلت تركيا عام 1914 الحرب إلى جانب ألمانيا، في الوقت نفسه أخذت بريطانيا تخطط للاستيلاء على فلسطين وتحويلها إلى وطن قومي للجماعات اليهودية بعد القضاء على السلطنة العثمانية، فدخلت في مفاوضات سرية مع روسيا القيصرية وفرنسا بعد الحرب، وقد عرفت هذه المفاوضات باسم مندوبيها: المندوب الانكليزي “مارك سايكس” والمندوب الفرنسي “جورج بيكو”، حيث انتهت بتوقيع اتفاقية “سايكس – بيكو” السرية عام 1916، وبموجب هذه الاتفاقية حصلت بريطانيا على حصة امتدت من طرف سورية الجنوبية “فلسطين” حتى العراق، وتشمل بغداد والبصرة وجميع البلدان الواقعة على جانبي الخليج العربي.

ولا شك أن هذا الوعد بكل ما يحتويه باطل ولا يستند إلى المنطق والقانون كونه صدر عن دولة لا صلة لها بالموضوع الذي يتناوله التصريح، ذلك أن بريطانيا لم تكن قد احتلت فلسطين وليس لها أية مسؤولية على الجماعات اليهودية، وبالتالي هو وعد ممن لا يملك لمن لا يستحق، ومن جهة أخرى صدر عن دولة إلى هيئة غير رسمية هي الوكالة اليهودية التي ليس لها صفة تمثيلية في فلسطين وليس لها أية علاقة بها.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.