’كونتا كينتي’ و’الطُبوب’.. ومأساة فتى ’فيرغسون’

konta-kinte

موقع العهد الإخباري ـ
محمود ريا:

لا شيء يميّز بين كونتا كينتي وبين مايكل براون. كلاهما أسود، وكلاهما كان ضحية رجل أبيض متوحش، ومأساة كل منهما دليل على مدى العنصرية التي تعتمل في نفس “الطُبوب”، “اليانكي”، الرجل الأبيض الذي يظن أنه أعلى من كل البشر، لا بل أنه هو وحده البشر.

في روايته الرائعة “جذور”، التي يزيد عدد صفحاتها على سبعمئة صفحة، يسرد أليكس هيلي سيرة جده الأعلى، كونتا كينتي، الذي كان يعيش في حضن قبيلته في أقصى غرب أفريقيا، وكيف جاء “الطُبوب”، وهي تسمية قبيلة المانديكا للرجال البيض الذي أتوا على متن سفنهم إلى الغابات الأفريقية، يصطادون الرجال والنساء والأطفال ويقتادونهم عبيداً إلى بلادهم.

الرواية التاريخية تحكي بلغة مليئة بالألم كيف قضى “الطُبوب” على أحلام الفتى ابن الستة عشر عاماً، وكيف اقتادوه في سفن الموت إلى أميركا، في رحلة لم ينجُ منها إلا من كان ذا بُنية قادرة على احتمال التعذيب والقهر والجوع والحشرات والفئران والقيود.

وبعد أن وصل كونتا كينتي إلى الأرض الجديدة، تحكي الرواية معاناته التي تختزل معاناة كل الأحرار على أرضهم، العبيد على الأرض الأميركية، وحالة الاستعباد التي طالتهم، فجعلتهم سلعة تُباع وتُشرى، دون أي نظر إلى آدميّتهم.

لقد ارتكبت المجموعة، التي أصبحت تُدعى فيما بعد الولايات المتحدة، ومن بين الجرائم العظمى التي ارتكبتها في مسيرتها التاريخية، جريمتين فظيعتين بحق الإنسانية، لا يمكن أن ينساهما التاريخ مهما حاولت البروباغندا الإعلامية محوهما من السجل الأسود لهذه المجموعة البشرية:

الجريمة الأولى هي استباحة أرض السكان الأصليين فيما سمّي لاحقاً بـ “أميركا”، والذين بات يُطلق عليهم اسم الهنود الحُمر، فأُبيد أصحاب الأرض، وتم تشتيت تجمعاتهم وتفريق قبائلهم بالقوة والحديد والنار، حتى قيل إن عشرات الملايين من “الهنود الحمر” تم قتلهم على أيدي “اليانكيز” المجرمين، وذلك في سياق تأسيس الدولة التي عُرفت فيما بعد بالولايات المتحدة.

والجريمة الثانية هي طرد عشرات الملايين من الأفريقيين من أرضهم، عبر أسرهم وقطعهم عن جذورهم، ونقلهم من بلادهم في سفن هي أدوات جريمة بحد ذاتها، حيث مات منهم مئات الآلاف وتم رميهم في المحيط، فيما استُعبد الناجون على أيدي “الطُبوب” الذي لم يتركوا وسيلة إجرامية إلا واتّبعوها من أجل إخضاع هؤلاء المعذّبين في الأرض ودفعهم للقبول بنير العبودية بعد حرمانهم من كل تقاليدهم وعاداتهم ولغاتهم وأديانهم.
لقد روى الكثير من الكتب بعض ما تعرّض له “الهنود الحمر”، كما تحدثت كتب كثيرة أخرى عن مأساة الإفريقيين الذين أصبحوا عبيداً عند السادة البيض. ولكن رواية “جذور” هي التي أعطت لتجربة هؤلاء المستعبدين بعدها الإنساني والحضاري، وكشفت زيف ادعاء الرجل الأميركي الأبيض بالحرص على حقوق الإنسان والعمل على حمايتها والحفاظ عليها.

واليوم، بعد مئات السنين، تعود سيرة كونتا كينتي من جديد، من خلال سيرة مايكل براون، الفتى الأسود الذي قتله شرطي أبيض في مدينة فيرغسون، دون أي مبرر، ودون أن ينال الشرطي عقابه، في خطوة لا يمكن وصفها بأقل من أنها خطوة عنصرية متغطرسة.

إن مقتل براون في مدينة فيرغسون هو استكمال لمسيرة استهزاء “الطُبوب” “اليانكي” العنصريين بحياة البشر، باختلاف ألوانهم وأعراقهم وأديانهم، واستخدامهم لـ “القوانين” التي يسنّونها بأنفسهم لخدمة مصالحهم، دون أي التفات لحقوق الآخرين ومقدساتهم.

إن التظاهرات الكبرى التي شهدتها المدن الأميركية يوم الأحد الماضي هي مؤشر مقابل على أن “المؤسسة الأميركية” باتت مهددة فعلاً بحركة وعي كبرى بالهوية يعيشها الأميركيون من أصل أفريقي، وأن مسألة قتل المواطنين السود لم تعد تمر دون حساب أو عقاب.

لقد أفشلت هذه “المؤسسة” المجرمة عدة تحركات كبرى للأميركيين ـ الأفارقة (كما بات يُطلق عليهم الآن)، من خلال زرع التفرقة بينهم، وترويج المخدرات بشكل مدروس وممنهج بين شبابهم، ومن خلال إفسادهم أخلاقياً ومجتمعياً، ما يجعل إمكانية ارتكاب جريمة أخرى من هذا النوع قابلة للتحقق في المقبل من الأيام.

ولكن مأساة فيرغسون، وغيرها من المآسي المماثلة التي شهدتها المدن الأميركية على امتداد البلاد خلال الأشهر والسنوات الماضية تجعل إمكانية قيام حركة وعي حقيقية ومتواصلة وناجحة أمراً أكثر قابلية للتحقق، وهذا ما عبّرت عنه التظاهرات التي اجتاحت العديد من المدن، والتي لم تنحصر في شارع أو في مدينة أو ولاية.

إن “دعاء” كونتا كينتي قبل أكثر من مئتين وخمسين عاماً لا يمكن أن يذهب هباء. إنه دعاء يحمل في طيّاته كل ما في قلب صاحبه من إحساس بالظلم والقهر. وسيأتي اليوم الذي يتحقق فيه هذا الدعاء، وتصبح فيه “الأمة الأميركية” أسيرة القوة التي امتصتها من أرواح الملايين من البشر، من الهنود الحمر ومن الأفريقيين، ومن غيرهم من شعوب العالم على امتداد الكرة الأرضية.

كونتا كينتي عاد، شبحاً يخترق كل الشوارع التي مرّ فيها، ويجوس في المزارع التي سحقت جسده ولكنها لم تستطع أن تهزم روحه، وها هو ينتفض في كل شارع ومدينة، ليجعل الأميركيين البيض، اليانكي، الطُبوب ضحايا جرائمهم التي ارتكبوها بحق البشر، بل بحقّ البشرية جمعاء.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.