لماذا يسيطر على المنطقة العربية من يسيطر على مصر؟

موقع قناة الميادين-

جمال واكيم:

تشكّل مصر ثابتاً جيوسياسياً في منطقة تغلب عليها الصحاري والأراضي الجرداء والسهول، وتمتد من غرب منطقة الفرات حتى سفوح جبال أطلس في المغرب.

تشكّل مصر أقدم كيان سياسي في التاريخ، ولم تتغير حدودها منذ توحيدها على يد مينا الأول في أواخر الألف الرابع قبل الميلاد. البلاد هي فعلاً هبة النيل، إذ إنها تتشكَّل من أراضٍ صحراوية جرداء يخترقها هذا النهر من جنوبها إلى شمالها.

والجدير ذكره أنَّ دلتا النيل كان بدرجة كبيرة نتيجة شق أقنية على يد مهندسين برز دورهم في مصر القديمة، وذلك بغية توسيع المساحة الزراعية. وحول النيل، تم بناء النظام السياسي المصري، ومعه مفهوم الأمن القومي الذي يتمحور حول الدفاع عن القلب، وهو منطقة دلتا النيل.

بلاد محورها منطقة الدلتا
ولأنَّ مصر هبة النيل، كان على المصريين منذ قديم الزمان أن يؤمنوا مصادر مياه النيل. هذا الأمر دفعهم إلى توسيع نفوذهم جنوباً حتى مرتفعات أسوان القريبة إلى مصادر المياه القادمة من السودان، بل إنَّ المصريين القدماء كانوا أول من أرسل بعثات لاستكشاف مصادر مياه النيل في البحيرة التي تُسمى اليوم “بحيرة فيكتوريا”، وهو ما تثبته خرائط قدماء المصريين التي نقلها الجغرافيون من أمثال بطليموس قبل ألفي عام، والشريف الإدريسي قبل 9 قرون.

ولأنَّ منطقة الدلتا هي المنطقة التي يتفرع منها النيل إلى عدد كبير من الأقنية، فقد احتاجت هذه الأقنية إلى إدارة مركزية شديدة من قبل مركز قريب إلى المكان الذي تتفرع منه الأقنية، فكانت مدن ممفيس، ثم الفسطاط، ثم القاهرة، التي اندمجت في العصر الحديث في مدينة واحدة.

أدى هذا الأمر إلى نشوء نظام اقتصادي سياسي اجتماعي شديد المركزية حول الدولة التي كان يمثلها الفرعون والكهنة الذين كانوا أيضاً موظفي الدولة.

خطوط الدفاع عن قلب مصر
ولأن الدلتا كان يشكّل منطقة القلب، فقد كان لزاماً على المصريين القدماء الدفاع عن هذه المنطقة من الغرب عبر منع توغل القبائل من ليبيا باتجاهها. وكانت الصحراء الغربية تشكل حاجزاً طبيعياً مع شمال أفريقيا باستثناء شريط ساحلي يمر عبر بنغازي، فكانت منطقة طبرق تشكل الحد الأدنى الذي يقف فيه النفوذ المصري في حده الأدنى، فيما كان المصريون القدماء يمدون نفوذهم حتى تونس التي كانت تشكل منطقة إستراتيجية تفصل بين الساحل الليبي من جهة والساحل الجزائري من جهة ثانية.

أما في الجنوب، فقد كانت منطقة أسوان تشكل حاجزاً طبيعياً مع السودان، فيما كان ساحل مصر الشمالي يشكل المنطقة التي تطل منها مصر على شرق المتوسط. أما الساحل الغربي، فقد كان يشكل المنطقة التي تطل منها مصر على البحر الأحمر، ومنه على المحيط الهندي، ولا يفصلها عن البر الآسيوي إلا برزخ السويس الذي كان على مصر أن تعطيه عمقاً دفاعياً لمنع توغل الغزاة منه إلى دلتا النيل، فكان الدرس الذي تعلمه المصريون القدامى نتيجة غزو الهكسوس لأرضهم أن الدفاع عن مصر من الشرق يجب أن يمر بحده الأدنى عبر خط غزة – بئر السبع. أما في حده المتوسط، فيقف عند منطقة الجليل، وفي حد أبعد في المنطقة الممتدة بين طرابلس في شمال لبنان وحمص في وسط سوريا. أما في حده الأقصى، فيقف عند سفوح جبال طوروس في شمال سوريا.

هذا الأمر جعل مصر تشكّل ثابتاً جيوسياسياً في منطقة تغلب عليها الصحاري والأراضي الجرداء والسهول، وتمتدّ من غرب منطقة الفرات حتى سفوح جبال أطلس في المغرب، وتتخللها جبال في منطقة الساحل الشامي وفي منطقة الجبل الأخضر في ليبيا والجبال الشاهقة في اليمن.

لذا، فإن من ينظر إلى مصر يجد أنها بأبعادها الجيوسياسية تشكل العمود الفقري والقلب لهذه المنطقة المترامية الأطراف. لذا، كان من الطبيعي لمن يريد السيطرة على هذه المنطقة أن يسيطر على مصر.

مصر وعلاقاتها الدولية
والجدير ذكره أن مصر كانت تتمركز على أحد أهم طرق التجارة العالمية، فقد كان المشرق هو المنطقة التي تتقاطع فيها طرق التجارة الآتية من شرق آسيا باتجاه منطقة المتوسط وأوروبا وأفريقيا. وكانت مصر تقع على منطقة رئيسية للتجارة، وهي تلك الواصلة بين شرق المتوسط والمحيط الهندي عبر البحر الأحمر.

لذلك، فإن مصر كانت تزدهر عندما كانت تسيطر على هذا الخط، فيما كانت تقع فريسة القوة التي تسيطر على شرق المتوسط برضا وتسليم من نخبها التجارية التي كان يهمها أن تحفظ مصالحها عبر الرضوخ للقوة التي تسيطر على شرق المتوسط.

لذا، وعبر التاريخ، عندما تكون مصر قوية، فإنها تبسط نفوذها على المنطقة الممتدة من بلاد الشام شرقاً حتى أطراف تونس غرباً، ومن سواحل المتوسط شمالاً حتى اليمن والقرن الأفريقي جنوباً.

أما القوة التي كانت تطمح إلى دور ريادي في العلاقات الدولية، فقد كان عليها أن تسعى للسيطرة على مصر، وذلك بالمساس بعناصر أمنها القومي المذكورة آنفاً، وخصوصاً بفصلها عن بلاد الشام من جهة، والسيطرة على التجارة في شرق المتوسط من جهة أخرى.

تجربة مصر عبد الناصر
وإذا عدنا إلى تجربة حديثة لمصر في محاولة انتزاع دور مستقل، وذلك في زمن جمال عبد الناصر (1952 – 1970)، فإننا نجد أنَّها استفادت من ظرف دولي كانت قوة بريطانيا العظمى تتراجع فيه لتنفك قبضتها عن معظم المناطق التي تسيطر عليها في العالم، ومن ضمنها منطقة شرق المتوسط.

أتاح هذا لمصر بسط نفوذها على منطقة شرق المتوسط، وخصوصاً بعد تأميم قناة السويس في صيف العام 1956، ما جعلها تستعيد دورها كمسيطرٍ على التجارة بين شرق المتوسط والمحيط الهندي.

بموازاة ذلك، كانت مصر قد بدأت تدعم حركات التحرر في العالم العربي بدءاً من عام 1954، فدعمت الحركات الاستقلالية في تونس والمغرب اللتين استقلتا عام 1956، وفي موريتانيا التي استقلت عام 1960، كما دعمت ثورة الجزائر التي استقلت عام 1962، إضافةً إلى دعم تحرر منطقة الخليج العربي واليمن وسلطنة عمان، فضلاً عن دعمها حركة التحرر في أفريقيا.

ولم ينقضِ عقد على استلام جمال عبد الناصر زمام الأمور في مصر حتى كانت خريطة العالم العربي والأفريقي قد تغيرت جذرياً، من خريطة تسيطر عليها القوى الاستعمارية الأوروبية إلى خريطة من البلدان المستقلة حديثاً التي تسعى لبناء قدراتها الوطنية.

استفاد عبد الناصر من تراجع قوى الاستعمار التقليدية ليحقق نجاحاته وانتصاراته، لكن كما استفاد من تراجع قبضة بريطانيا عن شرق المتوسط والمحيط الهندي لتحقيق هذه الانتصارات، فقد تضرر من بروز قوة جديدة في الساحة العالمية هي الولايات المتحدة وسيطرتها على طرق الملاحة البحرية في العالم، ومن ضمنها منطقة شرق المتوسط والمحيط الهندي. لقد ترجم هذا البروز الأميركي في البداية بإرسال الولايات المتحدة الأسطول السادس للمرابطة في شرق المتوسط بعد الثورة العراقية عام 1958 والأحداث اللبنانية في العام نفسه.

وتبع ذلك انفصال سوريا عن الجمهورية العربية المتحدة في صيف العام 1961، ثم توريط مصر في حرب اليمن، وصولاً إلى تنسيق الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية لمحاولة انقلاب ينفذه الإخوان المسلمون عام 1965.

وعندما فشل هذا الانقلاب، دعمت الولايات المتحدة “إسرائيل” في عدوانها على سوريا ومصر والأردن عام 1967، ما شكَّل ضربة قاسية لعبد الناصر، إلا أن الأخير لم يستسلم، وخاض حرب الاستنزاف، وبدأ بالتهيئة لحرب تحريرية لمحو آثار العدوان، غير أنه توفي عام 1970، تاركاً أنور السادات خلفاً له، وهو الذي ارتضى دخول مصر في دائرة النفوذ الأميركية.

خلاصة
شكَّل وصول أنور السادات إلى السلطة انقلاباً على المسار الذي تبنّته مصر لنفسها في ظل عبد الناصر، في السعي لأداء دور مستقل في السياسة الدولية. ومع دخول مصر في كنف النفوذ الأميركي، وخصوصاً بعد عام 1974، فإن معظم المنطقة العربية دخلت كلياً أو جزئياً في دائرة النفوذ الأميركية.

شكَّل ذلك مقدّمة لانتصار الولايات المتحدة بعد ذلك في الحرب الباردة في مواجهة الاتحاد السوفياتي عام 1989، ما أدى إلى تفكك الاتحاد السوفياتي عام 1991 وفتح صفحة جديدة في العلاقات الدولية مهدت لمرحلة من الهيمنة الأميركية على السياسة الدولية لمدة 3 عقود، حتى بدأت قوى جديدة مثل الصين وروسيا وإيران وغيرها تبرز في الساحة متحديةً الهيمنة الأميركية.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.