لم يعد للحروب أرقام

b9880923-40fa-4890-b014-fb16d442c3ec
الياس سحاب – صحيفة السفير

لا ندري بالضبط من أين خرجت فكرة ترقيم الحربين العالميتين المندلعتين في مطلع القرن العشرين ثم في منتصفه. فالتاريخ يقول لنا إنه٬ على مر القرون، قامت سلسلة من الحروب العالمية والمحلية، التي يصعب حصرها بأرقام متسلسلة٬ بدليل أن القرن العشرين نفسه شهد ملحقاً حربياً كبيراً لما سمي بالحرب العالمية الثانية، بغرض اقتسام بعض مناطق العالم بين القوى المنتصرة في الحرب، كما حصل في شبه جزيرة كوريا، التي انتهى الأمر إلى تقسيمها بين شمالية وجنوبية، وهو تقسيم يبدو حتى يومنا هذا غير مبرر. فها هو تقسيم الشعب الألماني قد سقط سلمياً، كما سقط تقسيم شعب فييتنام بعد حرب باسلة للتحرير.
كما أن نهاية القرن العشرين شهدت ما يشبه الحرب العالمية (لناحية عدد الدول المشاركة) لإنهاء غزو صدام حسين للكويت٬ وان كانت الحرب هذه استكملت بغزوة أميركية – بريطانية للعراق نفسه بحجة إسقاط النظام. فإذا بتلك الحجة تنكشف عن بداية ممنهجة لتدمير المنطقة العربية بلداً بلداً، حتى كادت هذه الدول تفقد تنوعها السكاني تماماً، علماً أن المسار اللاحق شكل واحداً من مفاعيل غزوة تدمير العراق العام 2003.
حرب أخرى، على أرض سوريا العربية٬ تحمل معالم الحرب العالمية المصغرة كذلك، انطلقت في الأساس من تحرك شعبي داخلي سلمي لإحداث تغييرات معينة في نظام الحكم، فإذا بهذا التحرك يتحول إلى اشتباكات مسلحة، تكاد تشارك فيها جنسيات العالم كلها، بعضها بصفة مقاتلين مدفوعين بنوازع تطرف ديني أعمى، يريد العودة بالتاريخ قروناً كاملة إلى الوراء، وبعضها على شكل قوى دولية وإقليمية، وجد كل منها في الأزمة السورية أرضاً خصبة لتحقيق مصالحه في هذه المنطقة من العالم.
ويكفي للتدليل على عالمية الحرب الصغرى التي تحولت إليها أزمة سوريا٬ الداخلية في الأساس، أن قوات الدولتين الكبريين، روسيا وأميركا، أصبحت متورطة فيها، كل منها بدرجة وكل منها بأسلوب، وكل منها لتحقيق أغراض لا علاقة لها ببعضها.
إن مشهد الطائرات الروسية العملاقة تنطلق من قواعدها الأساسية، لتحط في قاعدة «همدان» الإيرانية، تمهيدا للقيام بأعمال حربية على الأرض السورية، استكمالاً للأعمال الحربية التي تقوم بها طائرات روسية أخرى من قاعدة «حميميم»، إنما هو مشهد يوحي بعالمية الحرب. وفي الخانة ذاتها يصب الدور التركي في شمال سوريا٬ لناحية تسهيل تدفق جيوش المقاتلين من جنسيات مختلفة، ودعمها بوسائل عسكرية واستخبارية مباشرة أو غير مباشرة في الحرب البرية.
لقد سقطت الأرقام عن الحربين العالميتين الأولى والثانية، لينفتح التاريخ البشري المعاصر على سلسلة من الحروب التي لم يعد مجدياً ترقيمها بالتسلسل، بقدر ما باتت الحاجة ملحة إلى إطلاق مسار عميق يهدف إلى الحد من توظيف التطور العلمي في خدمة الصراعات الكبرى ومصالح القوى المعنية بها، بما يهدد بتدمير الإرث الحضاري للإنسان بالتدرج.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.