ماذا لو تبادل بوتين ولينين الأدوار؟

موقع قناة الميادين-

محمد فرج:

لينين المنشغل ببناء الاشتراكية وكهربة الريف، لم يكن قومياً بما يكفي لطموح بوتين اليوم، هو ببساطة فضّل البحث عن فضاء مكاني واسع لتجريب فرضيته في بناء الاشتراكية.

 

مرّت سحابة “تمرد فاغنر”، ولم يتبقَ منها إلا التنقيب في تفاصيل الحادثة، وكلمات بوتين الحازمة بشأن حتمية نجاح العملية العسكرية الخاصة، ولكن بين تلك الكلمات ثمة فكرة لافتة إلى حدّ الإرباك: “يجب تركيز الجهود على وحدة البلاد، والتمرد الأخير هو طعنة في الظهر سبق أن تعرضنا لها في الحرب العالمية الأولى”.

 

التأويلات بمعظمها ذهبت إلى أن المقصود هو الثورة البلشفية، وربما شخص فلاديمير لينين، الذي أنتج العديد من المؤلفات الفكرية التي تدافع عن فكرة انسحاب روسيا من الحرب، بعد سقوط القيصر نيقولا الثاني.

 

استندت فرضية لينين في الانسحاب من الحرب العالمية الأولى إلى عدد من المبادئ النظرية القابلة للنقاش مطولاً:

1.    في خطابه في متحف البوليتكنيك في 23 آب/أغسطس 1918م، اعتبر لينين أن الحرب العالمية الأولى هي “تنافس الدول السلّابة”، لا شأن لروسيا بها، وهي حرب تُشن لمصلحة الدول الغنية والرأسمالية، ولا يمكن أن تعبّر عن حرب للمظلومين كتلك التي خاضها سبارتاكوس في “ثورة العبيد” أو “ثورة المجالدين”. ناقش لينين في هذا الاتجاه أفكار الحروب العادلة والحروب غير العادلة.

 

2.    الحرب العالمية الأولى هي فرصة لتوسيع النفوذ الاستعماري للدول الكبرى، ففي الوقت الذي ينظر فيه الفرنسيون والإنكليز إلى هذه الحرب كإنقاذ للحضارة ضد “البرابرة – الهون – الألمان”، يرى فيها الألمان دفاعاً عن الوطن الأم من “القوزاق الهمجيين”. وفي وقت يسكن بريطانيا 40 مليون إنسان، تضم مستعمراتها 400 مليون إنسان، وهذه الحرب سوف تعمل على توسيعها. وهذا التوسع البريطاني قابلته شهية ألمانية لتوسيع نفوذها أيضاً. وليس لروسيا البلشفية أي رغبة في تحقيق هذا النوع من الأهداف.

 

3.    بعد انتصار الثورة البلشفية، تم الكشف عن عدد من المعاهدات السرية التي وجدت مسوداتها في قصر القيصر؛ وكانت مرتبطة جميعها بآليات تقسيم الأمم الضعيفة، وكان بينها بطبيعة الحال اتفاقية “سايكس بيكو”. اعتقد لينين بضرورة الخروج الروسي من اللعبة التي تتضارب تماماً مع المبادئ الاشتراكية التي دعا إليها.

 

4.    راهن لينين على دور ممكن للأممية ضد الحرب، لكنه فوجئ بعدم إمكانية بناء جسم سياسي عالمي يمتلك تأثيراً قوياً لإنهاء الحرب، بل إن اليسار الألماني، متمثلاً بالاشتراكية الديمقراطية الألمانية، صوّت إما بالموافقة على ميزانية الحرب أو الامتناع عن التصويت لا أكثر، الأمر الذي فتح الباب أمام اشتعال حرب الأفكار بين الطرفين، وكثر استخدام لينين لمصطلح “المرتد” في وصفه قيادات اليسار في ألمانيا. في الوقت الذي بحث فيه لينين عن أممية معادية للحرب، كان اليسار الألماني يرى أن أفكار الأممية لا تعمل في الحرب، وأن اليسار الألماني، كذلك البلاشفة هم سلطة انقلابية في روسيا.

 

5.    في كتابه “الدولة والثورة”، عدّ لينين الدولة نتاجاً للمجتمع عند درجة معينة من تطوره، وليست قوة مفروضة من خارجه، واعتبر أن التناقضات التي وصلت إليها روسيا كافية لبناء دولة جديدة مختلفة عن القيصرية، وهدم جميع مؤسسات القيصرية، حتى لو كان ذلك في زمن الحرب. أعطى لينين الأولوية لهذه المهمة “بناء روسيا السوفياتية” على أي شيء آخر، حتى لو خسرت روسيا القيصرية الحرب كلها، وهذا ما فتح الباب لاتهامه بالتعاون الضمني مع الألمان، الذين كانوا يبحثون عن شخصية قوية تُخرج روسيا من الحرب، وتتفرغ ألمانيا بعدها للجبهتين البريطانية والفرنسية. يمكن القول إن رواية “الثورة البلشفية مؤامرة ألمانية” عادت بقوة إلى روايات المجتمع الروسي بعد انهيار الاتحاد السوفياتي.

 

وقّع لينين بعد انتصار الثورة اتفاقية بريست ليتوفسك المذلّة، وتخلّى فيها عن دول البلطيق واعترف باستقلال أوكرانيا، ولم يكن بالإمكان عودة هذه الدول إلى الفضاء الروسي – السوفياتي إلا من خلال حرب أخرى، كانت هي الحرب العالمية الثانية بقيادة ستالين.

 

لينين المنشغل ببناء الاشتراكية وكهربة الريف، لم يكن قومياً بما يكفي لطموح بوتين اليوم، هو ببساطة فضّل البحث عن فضاء مكاني واسع لتجريب فرضيته في بناء الاشتراكية، وكان هذا الفضاء المكاني هو روسيا السوفياتية بما هو أضيق من حدودها القيصرية، ولكنها قابلة للحياة وتجريب الفرضية، وغير منشغلة في الحرب.

 

ليس من الواقعي القول إن أفكار رجل واحد هي التي أخرجت دولة بحجم روسيا من الحرب العالمية الأولى، لولا أن المزاج العام للشعب الروسي كان ينسجم مع هذه الأفكار، وكان شعار “الخبز والحرية والسلام والأرض” الذي قدّمه لينين مناسباً للحظة التاريخية الروسية. كان النظام القيصري الروسي متعفناً متآكلاً وعرضة للانهيار في أي لحظة، ولم تكن روسيا القيصرية لتجلس إلى طاولة الكبار للاقتسام بعد نهاية الحرب، وكانت روسيا القيصرية تعدّ من الإمبراطوريات المتخلفة اقتصادياً، وتعاني أزمات في إنتاج الأسلحة والذخائر والرصاص وإمدادات الطعام أثناء الحرب العالمية، وترسل عدداً من الجنود بلا سلاح على أمل استخدام أسلحة أحد الجنود القتلى، انتفاضات في الأرياف بسبب الجوع، وتراجع القيصر عن الوعود التي قدّمها لثورة عام 1905م.. باختصار، لم يكن للجندي الروسي الذي غرقت قدماه في الثلج من فرصة للفوز إلاّ بالشروط الفرنسية والبريطانية الحليفة.

 

تختلف المواجهة الروسية – الأطلسية عن الحرب العالمية الأولى في جوهرها:

1.   عندما أعلن بوتين عن بدء العملية العسكرية الخاصة، كان المزاج الروسي مستعداً لتحمل تبعات المواجهة. يفيد استطلاع الرأي الذي أجراه مركز “ليفادا” الروسي، بعد شهور من انطلاق العملية العسكرية، أن 40% من الشباب بين 18-45 عاماً يؤيدون العملية العسكرية، و76% ممن تتجاوز أعمارهم 45 يؤيدونها. هذا يعني أن المزاج العام الروسي مختلف تماماً عنه خلال الحرب العالمية الأولى، التي كانت فيها النسبة الأعلى من الروس تطالب بالخروج من الحرب ووجدت في خطاب لينين تلبية لاحتياجاتها.

 

2.    على عكس الإمبراطورية القيصرية المتخلفة اقتصادياً، كانت روسيا الحديثة جاهزة ومستعدة في بنيتها التحتية لمواجهة العقوبات الاقتصادية وتدفق الأسلحة إلى أوكرانيا، وهذا ما أثبتته مؤشرات الاقتصاد الروسي بعد الحد الأقصى الممكن من العقوبات الأميركية والأوروبية.

 

3.    على عكس الحرب العالمية الأولى، التي كانت محل تنافس استعماري، فإن الحرب الحالية هي ضرورة دفاعية.

 

4.    تنطوي هذه الحرب على خريطة مختلفة من التحالفات، فمن التحالف مع الغرب (فرنسا وبريطانيا) في الحرب العالمية الأولى، إلى التحالف مع الشرق (الصين وإيران) في هذه الحرب.

 

مات لينين قبل ما يقارب 100 عام، ولم يتحقق حلمه في أممية مناهضة للحرب، كما أن المشروع السوفياتي قد انهار، وأثبتت التجربة التاريخية أن تذويب الشعور القومي على طريقة لينين ليس أمراً ممكناً، أو أنه على الأقل يحتاج الكثير من الوقت. في اللحظة الراهنة من التاريخ، وعلى جبهة من جبهات الرد على العولمة الأميركية، الفكر القومي ما زال يعمل، والانتفاضة للدفاع عن الهويات الخاصة تعمل هي الأخرى، وهذه هي لحظة فلاديمير بوتين.

 

هواجس بوتين لا تشبه هواجس لينين، فالأول مسكون بالهوية الروسية وتقاليدها وحضورها، وهو الفكر الذي يصلح لذروة الصراع الحالي، والثاني مسكون بالطبقات والاشتراكية والأممية؛ وهو الفكر الذي كان مناسباً للحظة الحرب العالمية الأولى ومغادرة الحرب وعلاج الكوارث التي أنتجتها المراحل الأخيرة من الحقبة القيصرية.

 

وإذا عدنا إلى السؤال الأول، ماذا لو تبادل بوتين ولينين الأدوار؟

 

قلنا إن القدر متواطئ مع روسيا بأن جاء كلٌّ في لحظته!

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.