هل انتهى عصر الهيمنة العالمية للدولار الأميركي؟

جريدة البناء اللبنانية-

د. ميادة ابراهيم رزوق:

شكلت الحرب الأوكرانية (الروسية ـ الأطلسية) بتداعياتها العسكرية والاقتصادية والسياسية عناوين المرحلة الحالية، نحو تبلور موازين قوى ومعادلات جديدة تحكم العالم، وأحد أهمّ العناوين التي تأخذ حيّزاً من نقاشات مراكز الدراسات هي استمرارية تربع الدولار الأميركي على عرش النظام المالي العالمي، وخاصة بعد تراجع حصة الدولار الأميركي في احتياطات النقد الأجنبي العالمية وفق صندوق النقد الدولي من 71% في عام 1999 إلى 59% في عام 2022، بالإضافة إلى تأثير العقوبات الغربية على روسيا وتداعياتها السلبية على الاقتصاد العالمي وفي قلبه الاقتصاد الأوروبي.
في عام 1913 وفي الوقت الذي كانت لا تزال فيه بريطانيا مركز التجارة العالمية، وربط معظم الدول المتقدمة عملاتها بالذهب لإيجاد الاستقرار في عمليات تبادل العملات، تجاوز اقتصاد الولايات المتحدة الأميركية الاقتصاد البريطاني، وأصدر الاحتياطي الفدرالي الأميركي عملة الدولار رداً على عدم استقرار نظام العملة على أساس الأوراق النقدية الصادرة عن البنوك الفردية.
ومع اندلاع الحرب العالمية الأولى في عام 1914، تخلت العديد من هذه الدول عن معيار الذهب لتكون قادرة على دفع نفقاتها العسكرية، بما خفض قيمة عملاتها، ومنهم بريطانيا التي كانت متمسكة بالمعايير الذهبية للحفاظ على مكانتها كعملة رائدة في العالم، وجدت نفسها بعد ثلاث سنوات من الحرب مضطرة إلى اقتراض المال للمرة الأولى وبشكل أساسي من الولايات المتحدة الأميركية، بسبب حاجتها لتمويل تكاليف الحرب، حتى اضطرت إلى فك ارتباط عملتها بالذهب لزيادة تمويل معاركها، دون القلق بشأن الحفاظ على سعر ثابت لعملتها، وبدأت تشتري الأسلحة والذخيرة من الولايات المتحدة الأميركية مقابل الذهب، مما أتاح لواشنطن مراكمة الذهب خلال الحربين العالميتين، حتى باتت تملك بحلول نهاية الحرب العالمية الثانية ثلثي احتياط الذهب العالمي، وليحلّ الدولار الأميركي قبل ذلك في عام 1919 محلّ الجنيه الاسترليني باعتباره الاحتياطي الرائد في العالم.
وفي عام 1944، اجتمع مندوبون من 44 دولة متحالفة في بريتون وودز لتقرّر عدم ربط العملات العالمية بالذهب، ولكن يمكن ربطها بالدولار الأميركي الذي يرتبط بالذهب. وأكدت الاتفاقية أنه يجب على المصارف المركزية الاحتفاظ بأسعار صرف ثابتة بين عملاتها والدولار. في المقابل، ستقوم الولايات المتحدة باستبدال الدولار الأميركي للذهب عند الطلب.
وعلى إثر اتفاقية بريتون وودز تربع الدولار الأميركي على عرش العملات الاحتياطية فى العالم، بدعم من أكبر احتياطيات الذهب. وبدلاً من احتياطيات الذهب، تراكمت احتياطيات الدول الأخرى من الدولارات الأميركية، وفي ما بعد بدأت الدول بشراء سندات الخزانة الأميركية، التي اعتبرت أنها مخزن آمن للأموال.
في عام 1971 قرر الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون إلغاء التحويل الدولي المباشر من الدولار إلى الذهب، بسبب العبء المالي المترتب على حرب فيتنام، الذي جعل سياسة الإنفاق الحكومي «القوة أو الرفاه الاجتماعي» غير قادرة على الصمود، مع ازدياد معدلات التضخم والبطالة، والعجز المتضخم في ميزان المدفوعات بما يقوّض الثقة الدولية بالدولار، لذلك كان هذا القرار بفك ارتباط الدولار بالذهب لتفادي أن يفقد قيمته، ولطباعة المزيد من الأموال لتغطية نفقاتها، ورغم حالة عدم اليقين من جراء ذلك على الأسواق الدولية، تمسكت العديد من الدول بالدولار كعملة احتياطية حتى الوقت الحالي، حيث يستخدم 70% من سكان العالم الدولار في معاملاتهم اليومية، وتمتلك البنوك المركزية 80% من احتياطاتها من العملات الأجنبية بالدولار الأميركي، ولا تزال نصف المعاملات التجارية العالمية والقروض والدين العالمي بالعالم تجري بالدولار، بالإضافة إلى أسواق العملات الأجنبية حيث يشكل 90% من مجموع العملات.
لكن شكل تجميد الأصول الروسية في أوروبا وأميركا مع بداية الحرب الأوكرانية جرس إنذار للعالم، جعل الجميع يشعر بخطر أن يلقى المصير نفسه، فسارعت موسكو بالتعاون مع بكين لتقليل الاعتماد على الدولار، وإقامة تعاون بين النظامين الماليين في كلّ من البلدين، فتحولت موسكو إلى استخدام الإيوان الصيني، بالإضافة للعملات المحلية في التعاملات التجارية مع دول آسيا، بعد أن سبق ذلك مجموعة من الخطوات الاستراتيجية الروسية العسكرية والسياسية التي أعادتها رقماً عالمياً صعباً، فأقامت منظمة معاهدة الأمن الجماعي من جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق «أرمينيا وبيلاروسيا وكازاخستان وقرغيزستان وروسيا وطاجيكستان» عام 1992 كدرع سياسي وأمني وعسكري برز في سياسة روسيا الإقليمية والخارجية، بإظهار امتلاكها أوراق قوة ومناطق نفوذ وفضاءات حيوية عديدة، وشاركت في الحرب على الإرهاب في سورية في عام 2015 لتثبت نفسها قوة دولية بوصولها للمياه الدافئة في البحر المتوسط عبر أهم قواعدها « البحرية في طرطوس، والجوية في حميميم في اللاذقية»، وطورت شراكتها الاستراتيجية مع كل من الصين وإيران بمسار تصاعدي، ووطدت علاقاتها بتحالف استراتيجي قوي بالفناء الخلفي للولايات المتحدة الأميركية، دول أميركا اللاتينية العائدة بقوة إلى يساريتها وخاصة كوبا وفنزويلا والبرازيل، ليُستكمل ذلك بعلاقات تجارية تعتمد العملات المحلية للتبادل التجاري بينهم بدلاً من الدولار، بين روسيا والصين وبعض الدول الآسيوية والأفريقية وأميركا اللاتينية، فأجرت شركتا الصين الوطنية للنفط البحري، وتوتال انيرجي الفرنسية تسوية بالإيوان لتبادل الغاز الطبيعي المُسال، وأعلنت البرازيل والصين استخدام عملتيهما المحليتين في التبادل التجاري بينهما بدلاً من الدولار، وأطلقت تكتلات جيوسياسية وجيواقتصادية قد تساهم في عمليات إزالة الدولرة العالمية، أبرزها مجموعة بريكس التي تضمّ «البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا»، والتي تستحوذ على 23% من اقتصاد العالم، وهي أرقام قابلة للزيادة في ظل تقدّم أكثر من 13 دولة بطلبات للانضمام للمجموعة، التي تنظر باستحداث عملة مشتركة خاصة بها وفق تصريحات وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، كما اتفق قادة دول رابطة دول جنوب شرق آسيا «آسيان» التي تضمّ «إندونيسيا وماليزيا والفلبين وسنغافورة وتايلاند، بالإضافة لـ «بروناي وكمبوديا ولاوس وميانمار وفيتنام» بعد توسع عضويتها والتي تشكل مجتمعة سادس أكبر اقتصاد في العالم، بعد الولايات المتحدة والصين واليابان وفرنسا وألمانيا، وثالث أكبر اقتصاد في آسيا، على تشجيع استخدام العملات المحلية في المعاملات الاقتصادية والمالية والتخلي التدريجي عن الدولار الأميركي واليورو والين الياباني.
لكن في المقابل لا يزال الدولار الأميركي يشكل معظم احتياطات المصارف المركزية لهذه الدول اكثر من أي عملة أخرى، و 80% من عملة تجارة النفط العالمية، مما راكم أموالاً فائضة بحوزة الدول النفطية من الدولار الأميركي، احتفظت بها على شكل احتياطات دولارية أطلق عليها البترودولار، فلجأت هذه الدول لاستثمار الاحتياطات الزائدة في سندات الخزانة الأميركية، فتحتفظ اليابان نتيجة القروض للولايات المتحدة الأميركية بأكبر حصة من سندات الخزانة الأميركية بقيمة 1.3 تريليون دولار، تليها الصين بقيمة سندات تناهز تريليون دولار، ومن ثم المملكة المتحدة بـ 608 مليار دولار حتى بداية عام 2022، بما يجعل قيمة عامل الدين العنصر الأهمّ الذي يهدّد مكانة الدولار كعملة احتياط عالمية، باعتبار أنه يزعزع الثقة به، حيث يواصل سقف الديون انفجاره، مع معدل تضخم هو الأعلى منذ أربعين عاماً، ليواجه القطاع المصرفي بدوره أكبر وأعنف أزمة منذ الأزمة المالية العالمية الأخيرة في عام 2008، لذلك سارعت العديد من الدول لاستبدال الدولار في احتياطاتها من النقد الأجنبي بالذهب، وسمح البنك المركزي الاحتياطي الهندي للبنوك المركزية في 18 دولة بما فيها تنزانيا وكينيا وأوغندا بتسوية المدفوعات بالروبية، كجزء من جهد أوسع للحدّ من الاعتماد على الدولار، وتعمل البنوك المركزية في دول من الصين إلى الهند والبرازيل على استبدال الدولار بالذهب بكميات كبيرة، بأسرع وتيرة على الإطلاق منذ منتصف القرن الماضي، وقد أبرمت الصين اتفاقيات ثنائية مع 41 دولة حتى الآن بقيمة تتجاوز 500 مليار دولار، بحيث تسعر الصين صادراتها بالإيوان، مما زاد بنصيب العملة الصينية بتمويل التجارة الدولية بأكثر من الضعف منذ بداية الحرب الأوكرانية من أقل من2% في شباط/ فبراير 2002 إلى 4.5% في شباط/فبراير هام 2023، وبما يقترب من نصيب العملة الأوروبية الموحدة «اليورو» التي تسهم بـ 6% بتمويل التجارة الدولية.
ورغم كلّ ما سبق فلا يمكن للدولار الذي يساهم بنسبة 84% من تمويل التجارة العالمية، أن ينزاح ببساطة وبين ليلة وضحاها عن عرش الهيمنة على النظام المالي العالمي، فلا تزال الولايات المتحدة الأميركية أكبر اقتصاد في العالم، بناتج محلي يتجاوز 23 تريليون دولار وفق البنك الدولي، تليها الصين بـ 17 تريليون دولار، والهند بـ 3 تريليون، وتبقى واشنطن في صدارة التصنيع العسكري وتستحوذ على 49% من صادرات الأسلحة حول العالم وهي مسعرة بالدولار.
أما على الصعيد السياسي، فهي تملك علاقات اقتصادية وعسكرية قوية مع العديد من الدول في آسيا وأوروبا وأفريقيا، كما تجمعها تحالفات عسكرية قوية مع كوريا الجنوبية، واليابان، ودول الناتو، وكلّ ذلك يساعدها في ترسيخ مكانتها كقوة عظمى، ويبقى الدولار عملة احتياط عالمية مهمة على المدى القريب في ظلّ التفوّق العسكري والاقتصادي حالياً، مع تحديات حقيقية على المدى الطويل، وفق الأزمات والانقسامات الحزبية والسياسية والمجتمعية البنيوية الحادة في الولايات المتحدة الأميركية، وتردّد سعي بعض الولايات للانفصال كـ كاليفورنيا وتكساس، بالإضافة إلى حجم التحالف المتنامي العابر للقارات المناهض للهيمنة الأميركية، وتفلت بعض الدول «حلفاء الأمس» من تحت العباءة الأميركية، وليس آخرها المملكة العربية السعودية، وتركيا أهمّ دول الناتو، وتراجع الاقتصاديات الأوروبية، بما يهدّد بانفراط عقد الناتو…
وأخيراً أتت مشكلة فاغنر في روسيا يوم السبت الفائت وتمرّد قيادته برئاسة يفغيني بريغوجين، ليكشف حجم الدعم الكامل والغير المشروط للرئيس الروسي فلاديمير بوتين من الحلف المناهض للهيمنة الأميركية، الذي جمعته القيم والمبادئ والمصالح الاستراتيجية لتنبئ عن حقيقة قوة وتماسك الأحلاف المتضادة… التي تبشر ببداية تبلور عالم جديد متعدد الأوجه قد تكون فيه أميركا العظيمة، والدولار الأميركي واحد من العملات العالمية المساهمة في التجارة الدولية، ولا نبالغ إذا قلنا ترمومتر المرحلة هو سورية وسرعة تعافيها نحو تشابك جميع المشاريع الاقتصادية الروسية والصينية والإيرانية والسعودية وفي قلبها سورية.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.