محطات التلفزة اللبنانية.. مقارنة ومقاربة

lebanese-tv1

موقع إنباء الإخباري ـ
زينب عقيل:

لكي نفهم بشكل أفضل طبيعة قطاع وسائل الإعلام في لبنان، من الضروري أولًا أن نفهم طبيعة الدولة اللبنانية والخصوصية الثقافية والتاريخية والجغرافية التي أدت الى قيام نظام سياسي وثقافة فريدة في المنطقة.  وأشير بالتحديد الى الطائفية السياسية المتجذرة في النظام السياسي للبلاد منذ إنشاء “لبنان الكبير”. فالوضع ما زال على هذا النحو على الرغم من أحكام الدستور المعدّل وفقاً لإتفاق الطائف الذي نصّ على آلية لتجاوز الطائفية السياسية. هذه الطائفية تعني في الواقع أن اللبناني يتمتع بحقوق ديموقراطية فقط بقدر ما ينتمي الى طائفة محددة معترف بها. وبقدر ما تكون الطائفة ذات نفوذ بقدر ما تزداد الحقوق والإمتيازات.
وعند تطبيق هذه الصيغة على وسائل الإعلام، من غير المفاجئ أن يتبين أن محطات التلفزة المرخصة بعد الحرب (من خلال قانون البث رقم 382\94 )، قد وزعت على أسس طائفية. وللسبب نفسه، لم يكن مفاجئًا استبعاد جميع الطلبات الأخرى بغض النظر عن استيفائها أو عدم استيفائها الشروط القانونية.
كان التلفزيون في لبنان في بداياته عبارة عن مشروع تجاريّ صرف. في شهر تشرين الأول/ أكتوبر من عام 1954، تقدّم رجلا أعمال لبنانيان (وسام عز الدين وأليكس عويضة) بطلب لإنشاء شركة بث تلفزيوني، وبعد مرور سنتين، وخلال شهر آب 1956، تم توقيع اتفاق من 21 مادة مع الحكومة، وأعطيت شركة تلفزيون لبنان ( CLT ) ترخيصاً للإرسال التلفزيوني تتم إعادة النظر فيه بعد 15 عامًا. وكانت المحطة التلفزيونية الأولى في جميع أنحاء العالم العربي غير حكومية، وتجارية مدعومة بالإعلانات. وفي تموز 1959، وقعت شركة أخرى، وهي شركة تلفزيون المشرق اتفاقاً مشابهاً مع الحكومة، وبدأت الإرسال في أيار 1962.
واجهت الشركتان قيودًا قاسية حول نوعية البرامج التي يمكن بثها. وكانت البرامج محصورة في التعليم والتربية والتسلية، فيما بقيت برامج الأخبار تحت سيطرة الحكومة، حيث كانت ناطقة بإسم السلطة. وعلى الرغم من كلّ الجهود، استمرت الشركتان في مواجهة مشاكل مادية جديّة، واستمرّ الوضع في التدهور خلال السنتين الأوليين من الحرب الأهلية عام 1975. وفي العام 1977، تدخلت الحكومة لإنقاذ هاتين الشركتين اللتين أصبحتا المصدر الرئيسي المتبقي لتسلية وترفيه الشعب اللبناني خلال الحرب، وأنشأت تلفزيون لبنان لاستيعاب كل منهما، وحصل تلفزيون لبنان على ترخيص لمدة 25 سنة ومُنح إحتكار الإرسال التلفزيوني في لبنان.
وفي الفترة بين 1975 و1991، انتشرت المحطات المتمرّدة والسرية، مستفيدة من الفلتان الأمني في البلد، بحيث بلغت نسبًا لا تصدّق في بلدٍ بحجم لبنان، وكان العديد من هذه المحطات ناطقاً باسم الحزب أو الفصيلة أو المجموعة الدينية التي تدعمها أو تموّلها، واجتذبت شريحة ضيقة من المواطنين المؤيدين للأيديولوجيا نفسها أو الطائفة نفسها.
وأولى هذه المحطات، كانت المؤسسة اللبنانية للإرسال (LBC )  التي انطلقت عام 1985 مستفيدة من الإنقسامات السياسية وضعف السلطة المركزية وهيمنة حزب القوات اللبنانية على جزء كبير من البلد.
وبقي الأمر على هذه الحال إلى أن تمّ توقيع إتفاق الطائف في العام 1989، والذي ينصّ أحد بنوده على “إعادة تنظيم جميع وسائل الإعلام تحت مظلّة القانون وضمن إطار الحريات المسؤولة لخدمة جهود المصالحة، ولإنهاء حالة الحرب”. وبدأت السلطات بتفكيك المحطات غير الشرعية، الّا أن المؤسسة اللبنانية للإرسال فرضت نفسها أمراً واقعاً يُعبّر عن حيّز كبير من الشارع الماروني. وعلى قاعدة ستة و ستة مكرّر، تأسس تلفزيون المستقبل على يد رئيس الحكومة آنذاك رفيق الحريري المسلم وذلك في العام 1993.

lebanese-tvوفي شهر تشرين الأول من العام 1994، وفي أعقاب مشاورات خلال جلسات برلمانية متعددة، أقرّ مجلس النواب القانون رقم 382\94 والذي جاء في المادة الأولى منه أن “هدف هذا القانون هو تنظيم البثّ التلفزيوني والإذاعي بأي تقنية أو وسيلة أو جهاز، أيًّا كان وضعها أو اسمها، وتنظيم الأمور والقواعد المتعلقة بهذا البث كافة “. كما نصّ القانون أيضًا في المادة السابعة عشرة على “إنشاء هيئة تدعى المجلس الوطني للإعلام المرئي والمسموع تتألف من عشرة أعضاء يعينون مناصفة من قبل مجلس النواب ومجلس الوزراء “. والجدير بالذكر أنه تمّ إقرار هذه الهيئة تحت ضغط مجلس النواب من أجل التدقيق في السيطرة الحكومية على الإعلام، ومهمتها شبيهة بمهمة نظيرها الفرنسي (المجلس الأعلى للإعلام المرئي والمسموع CSA).
وبعد التوافق بين الأطراف السياسية، وأخذ الضوء الأخضر من الراعي السوري بتوقيف الفوضى الإعلامية وإعادة تشكيل المشهد الإعلامي الذي برزت فيه أربع محطات وهي” LBC “ القواتية، وNTV””  لرجل الأعمال اللبناني تحسين الخياط، MTV”  “ لغبريال المر أخ الزعيم الأورثوذكسي ميشال المرّ، و”المستقبل” لرفيق الحريري، تمّ ترخيص محطة LBC  للموارنة، MTV  للأورثوذكس، و كذلك المستقبل للسنة، فيما أعطيت رخصة NBN  للشيعة، والتي بدأت البث بعد سنتين.
وقد رفضت حكومة الحريري منح الترخيص لـ NTV   بحجة عدم توفر رأسمال بقيمة 20 مليار ليرة مع أن هذا المبلغ لم يكن في دليل المواصفات، ولكن مجلس شورى الدولة قام بنقض هذا القرار في العام 1999 استناداً إلى المادة 24 من قانون البث، وعادت للبث عام 2001.
وقد كانت المادة السابعة من قانون البث، والتي حاول من خلالها المجلس الوطني للإعلام المرئي والمسموع ضمان تنوّع المضمون من خلال فرض مساهمين من طوائف مختلف في المؤسسات الإعلامية، سببًا لرفض الترخيص للمجموعة اللبنانية للإعلام (قناة المنار وإذاعة النور)، حيث جاء في رأي المجلس الوطني للإعلام المرئي والمسموع الذي نشر في الجريدة الرسمية (العدد رقم 47 بتاريخ 16 ايلول 1996) تبريران لرفض الطلب، الأول هو “أن أكثر من 50%  من الأسهم يملكها مساهمون ينتمون إلى الحزب السياسي  نفسه، والثاني هو عدم قدرة المؤسسة على تغطية نفقات السنة الأولى للبث المقدّرة بـ 20 مليار ليرة لبنانية،الأمر الذي يتعارض مع الطابع التعددي المنصوص عليه في المادة 7 من قانون البث رقم 382\94، والذي يشكل إحدى المعايير الأساسية لمنح التراخيص”.
إلا أن قناة المنار فرضت نفسها ايضًا كواقع سياسي في ظلّ الإحتلال الإسرائيلي منذ العام 1991، فأعطيت الترخيص بشرط أن تقتصر برامجها على أخبار المقاومة والبرامج الدينية، في المقابل أعطي ترخيص لمحطة TELE LUMEIRE  للوسط الديني الكاثوليكي في خطوة لإبقاء التوازن.
وفي العام 2006، وافق المجلس الوطني للإعلام المرئي والمسموع بالاجماع على منح الترخيص لمحطة OTV  برئاسة ميشال عون، حيث لاحظ المجلس أن الطلب المقدم ينطوي على معلومات وافية حول شروط الترخيص، إن لجهة حصة كل من الجهة المقدمة للطلب أو على صعيد الامتلاك لواقع الهواء السياسي، للوصول إلى صيغة سليمة وغير قابلة للطعن إن لجهة حصص المساهمين، أو لجهة مطابقتها لشروط البث على الأراضي اللبنانية كافة، ثم رفعتها إلى مجلس الوزراء، ومُنح الترخيص.
وفي تفاصيل المادة السابعة:
تراعى في إعطاء الترخيص لمؤسسات الإعلام المرئي والمسموع الأمور التالية:
أولاً:
1-    الإمكانات والمواصفات التقنية والفنية لأجهزة البث والنقل بواسطة القنوات والموجات المخصصة لها.
2-    شروط ومستلزمات العمل من طاقة بشرية وبرامج وأمكنة وتجهيزات ومعدات واستديوهات.
3-    قدرة المؤسسة على تأمين نفقات السنة الأولى من الترخيص على الأقل.
ثانياً:
إلتزام المؤسسة احترام الشخصية الإنسانية وحرية الغير وحقوقهم والطابع التعددي للتعبير عن الأفكار والآراء وموضوعية بث الأخبار والأحداث  والمحافظة على النظام العام وحاجات الدفاع الوطني ومقتضيات المصلحة العامة.
ثالثًاً:
إلتزام المؤسسة حاجات تنمية الصناعة الوطنية المتعلقة بالإنتاج الوطني للإعلام المرئي والمسموع.
رابعاً:
إلتزام المؤسسة طالبة الترخيص بحجم الإنتاج المحلي المتطور الذي يحدده دفتر الشروط المتعلق بكل فئة من فئات المؤسسات التلفزيونية والإذاعية في مختلف البرامج .
خامساً:
إلتزام المؤسسة عدم الحصول على أي كسب مالي غير ناجم عن عمل مرتبط مباشرة أو غير مباشرة بطبيعة عملها.
سادساً:
إلتزام المؤسسة عدم بث كل ما من شأنه أن يؤدي الى ترويج العلاقة مع العدو الصهيوني.
سابعاً:
تطبق على وسائل الإعلام المرئي والمسموع أحكام القوانين العامة بما لا يتعارض مع أحكام هذا القانون.
وفي نظرة سريعة إلى مضمون المحطات، أقل ما سنلمحه هو أن  “كلاً يغني على ليلاه”، وأنه من الصعوبة بمكان أن تستقطب إحداها جمهور الأخرى. فلكل محطة إما  ثقافة أو سياسة أو تطلعات تختلف عن الأخرى.
قد لا يختلف  المضمون الثقافي و السياسي بين محطتي LBC  وMTV ، الا أن الأخيرة قد تفوقت فنيًا وتقنيًا بعد عودتها عام 2009، مركّزة على برامج الترفيه لجذب الناس، بعد تحضير فريق عمل من المذيعين والمذيعات ذا صبغة واحدة، يستخدمون اللغة الانكليزية أكثر من العربية في كلامهم، حتى بدت المحطة وكأنها محطة أجنبية لا تعكس البيئة اللبنانية ـ المتوجهة اليها على الأقل ـ إلا قليلا، ولا تعبر عن الهوية العربية بشكل عام. أما المؤسسة اللبنانية للإرسال LBC ، فهي تتقلب لاستنهاض نفسها لمواكبة الجانب الفني والتقني وغزارة إنتاج البرامج في ال MTV، ومحاولة استقطاب  الجمهور الواسع لنشرات أخبار الـ “الجديد”  والتي انعكست مؤخرًا في المقدمة النقدية التي اعتاد الجمهور على سماعها بقلم مديرة أخبار الجديد مريم البسام، التي استنكرت استخدام أسلوبها في نشرات المؤسسة اللبنانية للإرسال، الا انها راهنت على أن بيار الضاهر رئيس مجلس ادارة LBC لا يستطيع الذهاب بعيداً في جرأته بسبب الكثير من الحسابات.
دخلت قناة المستقبل في المنافسة على الأعمال الدرامية في بداياتها، وقدمت لجمهورها مجموعة من البرامج الاجتماعية و الترفيهية، وجذبت شريحة كبيرة من المشاهدين، كما كانت أول قناة لبنانية عبر شبكة الانترنت وذلك عام 1996، وبعيد استشهاد الرئيس رفيق الحريري، كانت المحطة قد بدأت بالتراجع، وخرجت من المنافسة كليا بعد حادثة الإغتيال، متوجهة الى طائفتها بكل مواردها البشرية والمادية، حيث أطلقت قناة أخبار المستقبل عام 2007 في خطوة لتخصيص مساحة أكبر للخطاب الطائفي، ومن ثم عادت وأقفلت المحطة الإخبارية لتتحول المحطة الرئيسية إلى منبر سياسي، مع بعض البرامج المنوّعة.
أما قناة الجديد فهي القناة اليسارية المعارضة لمختلف الحكومات، وتقوم بنقد أي نشاط سياسي يختلف مع قناعات أعدتها لنفسها  أكانت محلياً أو إقليمياً أو عالمياً، وتتبنى ما ينسجم مع معطياتها، وقد رسمت لنفسها خطًاً في نشرات الأخبار قد لا يراعي الشروط المهنية والتقنية، إلا أنها استطاعت استقطاب جمهور واسع، خصوصًا لافتتاحيات نشرات الأخبار التي تعكس لسان حال الجمهور وخاصة اليساري، والنقل المباشر للأحداث والأخبار دون تمحيصها من موقع الخبر والتي كادت مؤخراً أن تدخل لبنان في أتون الحرب، إثر الإعلان عن مقتل المخطوفين في أعزاز. ولا تتردد قناة الجديد في ذمّ من مدحتهم في نشرة سابقة.
وبالرغم من إجماع المجلس الوطني للإعلام بأعضائه العشرة على أن OTV  قدم جديداً في مشروعه عند تقديم طلب الترخيص، إلا أن المحطة وبعد 6 سنوات من البث لم تقدم  جديداً سوى برامج الترفيه التي يخلو بعضها من الثقافة الهادفة.
أما الـ NBN  فهي لم تنجح في تحديد هويتها حتى اليوم، فهل هي قناة إخبارية فقط، أم أنها تبث الدراما؟ وهل يعكس طاقم الموظفين فيها البيئة التي تستهدفها القناة، وهي الجمهور الشيعي الذي يلتزم بأغلبه بالحجاب؟  لكننا لا نرى الحجاب الا على رأس مراسلة واحدة! فهل هي إذن متوجهة إلى غير الجمهور الشيعي؟ لكن أخبار حركة أمل المتصدرة النشرات آخر ما يهم الجمهور الآخر.. هنا يقع التناقض ..
تتجاهل قناة المنار كل ما يمكن التأثير سلباً على قاعدتها الشعبية من أخبار، وبدا هذا التجاهل واضحاً في الآونة الأخيرة، ضمن استراتيجية مدروسة في نقل نوع الأخبار، وكل ما يمكنه التأثير والتكبير من حجم الخصوم. وقد لا يكون من ضمن سياستها التوجه إلى الجمهور الآخر فيما يتعلق بالبرامج الإجتماعية، فرقابة الشاشة لا تسمح بإخراج مقابلات مع غير المحجبات إلا في الأخبار والبرامج السياسية لاستحالة حذفها. وقد خطت المنار خطوة مميزة نحو جمهورها في إنتاج الدراما اللبنانية  “الملتزمة” من خلال “الغالبون” 1 و 2 الذي يعكس بيئة جمهوره المعاصرة، هذا الجمهور المتعطش لأعمال يرى نفسه فيها على عكس أعمال الدراما التي تنتجها المحطات الأخرى. وتحاول قناة المنار حاليا التوجه إلى الجماهير كافة من خلال المسلسل التاريخي “قيامة البنادق ” الذي يعكس البيئة اللبنانية الجنوبية في أوائل القرن الماضي، خاصة و أن ابطال هذه الأعمال هم نجوم ينتمون إلى اطياف أخرى، و لكن، نختلف هنا في لبنان حتى على التاريخ..
ولا داعي للتعليق على سبات تلفزيون لبنان، ويكفي الترحم على العصر الذهبي للدراما اللبنانية التي تركت أثراً هائلاً في الذاكرة الشعبية الجامعة لكل الأطياف.
اذا أردنا  مقاربة المحطات المذكورة من خلال قانون البث أعلاه، ومحاولة إسقاطه عليها، نجد أن هذا القانون خاضع لموازين قوى ولا يطبّق فعلياً، في زمن أصبحت فيه وسائل الإعلام تسيطر على المزاج الشعبي العام، لما لها من الدور الكبير في تجييش أو تهدئة النفوس، فملوك الطوائف لا ينفكون عن استخدام هذه المحطات لإطلاق حملاتهم ضد هذا أو ذاك، ولن يكون مجدياً التحدث عن معظم معايير الإصلاح المذكورة تحت ظلّ الهيمنة الطائفية على دولة القانون، خاصة و أنّ المزاج الشعبي هو طائفيّ بامتياز..

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.