من قلب الحدث: شاهد على القيامة

syrian-soldier-reportage

موقع إنباء الإخباري ـ
دمشق ـ سمر عبود:

والتفت إلى ذلك البيت، فلترفع الأقلام، هنا ابتدأ التاريخ، هنا ولد نبي جديد.

أطرقت، وأنا أتابع طريقي، أتذكر حديثه إلي، وخطوط رسمت بعناية على وجهه الملائكي. ينظر إليّ ويناولني القهوة، أبادله الابتسام، فكيف لا تبتسم لمن منحك الحياة.
ارتشفت القليل، ونظرت إلى غرفته، لباس يتوسط مكتبه، وصور تزين حائطه:  جيفارا، الشيخ صالح، غاندي، وكثيرون من الذين غيّروا مفاهيم الانسانية، لم يدرِ إنني سأعلق صورته في غرفتي فور وصولي، فهو لا يقل عن هؤلاء.

أقول له بقلق: هل لا تزال تشعر برجلك؟
نعم ـ يقول ـ لا تقلقي، بعد الغد ستجرى لي عمليه أخرى.  أعاني من آلام في ركبتي أيضاً. وضحك وهو يقول:  يلزمني قطع غيار كثيرة.

كيف يستطيع الضحك؟
كيف يواجه الألم ولا يبكي؟
سامحني إن كنت قد ذرفت الدمع يوماً
سامحني إن كنت قد تذمرت من انقطاع للتيار الكهربائي أو لأي سبب آخر.
فأنا الآن أعي حقّاً ما تعني البطولة، وما يعني الوطن.
فأنت هو متجسد في جسد فتي.
syrian-soldier-reportage1
الملازم محمد الضاهر، شاب يبلغ من العمر  خمسة وعشرين عاماً، مصاب برجليه. أجريت له عملية أولى، وبعد أيام ستُجرى له عملية أخرى.

يقول لي: كنت شقياً جداً في الدراسة، لم ألتفت يوماً إليها،  لكني قررت ـ وقبل إنهاء دراستي الثانوية ـ أن أعكف عليها، وهذا ما فعلت فعلاً، وللمفاجأة، عند ظهور النتائج، كنت الثالث على مستوى القطر، والدي قدم طلب للحصول على بعثة دراسية، وفعلا سافرت سنة 2007 إلى مصر للدراسة، درست هناك هندسة الزراعة، أنهيت دراستي عام 2011 بتقدير امتياز.

كانت قد ابتدأت الأزمة في سوريا، وللحق كنت قد تأثرت بالإعلام وأردت أن أقطع الشك باليقين.syrian-soldier-reportage2
قبيل التسجيل للدراسات العليا رجعت إلى البلاد، وتجولت فيها، سافرت إلى حمص وحماه، وراقبت حواجز المسلحين، جلست مع عائلات المخطوفين، وحينها بلغنا خبر استشهاد أقرباء لنا ذبحاً في وادي الذهب بحمص.

نسيت أن أقول لك إننا من حماه، ولكن في الثمانينيات، وبعد أن استشهد أقربائي على يد الإخوان، نزحنا إلى هنا.

أكمل كلامه قائلاً: بعد هذه الجولة أيقنت أن ما يحدث هنا ليس ثورة، وأنها فعل مدبر لتدمير الوطن. قررت حينها أن أوقف التسجيل، وتقدمت بطلب استعجال للجيش، وقبل التحاقي توظفت، وبعد هذا ابتدأت خدمتي للوطن، ذلك الواجب المقدس.

قاطعت حديثنا طفلة صغيرة تبلغ من العمر 6 سنوات، جميلة طوّقت عنق محمد بذراعيها الصغيرين، أشرق وجه ملاكي فهو يشع في حضرة الأطفال، فلقد عرفت من أصدقائه أنه وقبل انضمامه إلى الجيش عمل في المجال الانساني وكان جل عمله مع الأطفال.

تضحك الصغيرة فتملأ غرفته بالألوان، وتضفي على ملامح غرفته التي زينها بالاشياء القديمة التي يحبها، كالفراش العربي والصوف، جواً آخر، كأننا قد سافرنا في الزمن إلى الزمن الجميل.

تقطع مخيلتي فيروز تغني “وحدون بيبقوا”، يتوقف محمد عن اللهو ويقول لي: تلك أغنيتي المفضلة.

كيف لا تكون وهي تمثله بأنغام وصوت من حرير؟

بعد أن أكملت احتساء القهوه قلت له: أين خدمت يا محمد؟

قال لي: في كل البلاد. وأردف جملته بضحكة.
لا أعرف ماذا يعتريني حين استمع إليه، كأنما تيار من أمل تسلل إلى عروقي.  ما أجمل ضحكتك يا محمد، تقهر القهر.

يقول لي: كنت بعدرا، داريا، الدريج ، داريا، حمص، شنشار، حلب وخناصر..
وهنا يطلق آه خافتة.. ويكمل:

الغاصبية، كفرنان..
syrian-soldier-reportage3
يسرد الأماكن وفي عيونه ترسم خارطة المكان ووجوه رفاق عاهدوا أن لا يستسلموا

محمد كيف أصبت، قل لي. أسأله.

كان هذا يوم الخميس، طلب منا تحرير نقطه لنقطع الإمدادات للإرهابيين بين التلبيسه والرستن، وهكذا كان. حررناها وعدنا في اليوم التالي الجمعة الموافق 22 تشرين الثاني من العام الماضي. تلقينا اتصالاً يقول إن هنالك هجوماً فذهبنا للمساعدة، وعند عودتنا قررنا نقل النقطة إلى التل، وبدأنا بالبحث عن مكان لتثبيت صاروخ كونكورس، وهنا انهالت الضربات علينا.
ما أشعر به أنني وضعت يدي على رجلي وشعرت بالعظام متفتتة، لم أقوَ على المشي.

قال: الآن أشعر بتحسن ملحوظ، وأتأمل أن أعود إلى عافيتي لأكمل طريقي.

نظرت في عينيه وقلت: وهل تريد العودة؟

قال: نعم.

“لو قطعو اليدين والرجلين لن اطلب التسريح”

صعقتني إجابته،  طوبى لذلك الرحم الذي حمل مثل هذه الرجال

من أين يأتي بتلك القوه؟ كيف يستقي الأمل؟

هو الصغير المدلل في عائلته. ذلك المدلل أصبح ملهماً.

يقول لي: حين ذهبنا إلى خناصر كنا 60 وعدنا 23، الآن عندي إرادة وقوة أكثر من ذي قبل.

قبل أن أودع ملاكي وبطلي، سألته عن حقوقه.
قال لي أتلقى راتب الجيش الذي يبلغ 675 ل س، لكن بعد الرتبة سأحصل على 1000 ل س. ابتسم حين قالها.

صمت الكلام.

كيف لهذا الشاب أن يتنازل عن راتب وظيفي يعادل 20000 ل س، ويرفض التسريح ويصر على العودة بمرتب زهيد كهذا، إن لم يكن من الأنبياء، من أولئك الذين يقدسون الوطن ويقدسون القضية.

تكلفة الدواء في الأسبوع 5000 ل س، لكنه يدفع 20 بالمئة، لأنه موظف فيتدبر أمره. هكذا قال.

فكيف لي أن أعارضه.

اشتكى لي حال الفقراء من جنودنا. إنهم لا يستطيعون أن يقتنوا الأدوية وأن هنالك أخطاء دفع ثمنها جنود.

في النهاية، قال لي: سننتصر، فكيف لا أصدق نبيي، سننتصر يا نبيي، أنا على ثقة

وعندي ثقه فيك و”بكفي”

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.