موسكو وبكين.. حبوا نحو تحالف تفرضه الظروف

صحيفة الوطن السورية-

عبد المنعم علي عيسى:

كان لافتاً أن يتوادع الرئيسان الروسي فلاديمير بوتين والصيني شي جين بينغ بعيد انتهاء محادثاتهما في موسكو هكذا أمام الكاميرات بل وفي حضرة لواقط الصوت التي رصدت، بعبارات واضحة، حواراً قصيراً قال فيه الأخير: «الذي لم يحدث منذ 100 عام قادم، يحدث الآن، ونحن سنقود هذا التغيير»، فرد عليه نظيره الروسي بكلمة مقتضبة تقول: «أتفق»، لينطلق الرئيس الصيني من بعدها نحو السيارة التي ستقله إلى المطار ومن ثم عائداً لبلاده التي جددت له البقاء في منصبه لولاية ثالثة بل وعززت قيادته عبر توسعة صلاحياته لتشمل النطاقين العسكري والأمني الأمر الذي أريد له أن يعكس للعالم صورة مفادها أن الصين اختارت السير وراء قيادة الرئيس شي وأن «الناشزين» عن ذلك لا يمثلون شيئاً يذكر.

قد لا يكون اللافت هو تصوير لقاء رئيسين بالصوت والصورة أو وداعهما، فمثل حالات كهذه باتت أمراً مألوفاً ومعتاداً، لكن اللافت هو طبيعة الحوار الذي وإن جاء مقتضباً لكنه كان كافياً للقول: إن ما احتواه قد يكون الأهم مما دار وراء جدران الغرف المغلقة، فما الذي يمكن أن يجري الاتفاق عليه أخطر من الاتفاق على أن «التغيير قادم» وأن الطرفين سوف «يقودانه».

كانت لبكين منذ بدء الصراع في أوكرانيا شباط من العام 2022 حسابات معقدة وهي من حيث النتيجة كانت تدفع بها نحو وجوب الإبقاء على مسافة ما تبعدها عن المواقف الروسية خصوصاً بعدما وجدت موسكو نفسها أمام حرب مع الغرب يخوضها هذا الأخير بالوكالة على الأراضي الأوكرانية، وعشية حلول الذكرى الأولى لبدء الصراع، الذي تكشفت أبعاده ومراميه واحتمالات تطوره، تقدمت بكين بمبادرتها السياسية لحل الصراع التي كانت تقوم على إطلاق مسار للمفاوضات السياسية والرفض المتكرر لسياسة العقوبات الأحادية المفروضة على روسيا، والمبادرة إذ قرئت في الغرب على أنها لا تعدو أن تكون محاولة صينية لرسم سقوف لمواقف بكين المستقبلية من ذلك الصراع الذي تبدى استعصاؤه نتيجة لعدم قدرة أي من طرفيه، أو أطرافه كوصف أدق، حسمه لمصلحته أو فرض شروطه على الطرف الآخر، لكن القراءة أضافت، كما يبدو، قناعة تقول إن من الصحيح النظر إليها، أي إلى المبادرة الصينية، على أنها محاولة أيضاً لـ«إنقاذ» روسيا بعدما راحت تقارير الغرب تسوق للكثير من النظريات في شتى الاتجاهات بدءاً من «اهتزاز القيادة الروسية وانقسامها» ثم وصولاً إلى القول إن الاتحاد الروسي «بات على وشك التفكك والانهيار»، والأمر هنا لا ينفصل عن التطور الخطير الذي ذهبت إليه «محكمة الجنايات الدولية» عندما أصدرت منتصف شهر آذار الجاري «مذكرة توقيف» بحق الرئيس الروسي.

جاءت زيارة الرئيس شي إلى موسكو في أعقاب تطورين مهمين لا يمكن لـ«قارئ» أن يخطئ في تفسيرهما أو جدلية الربط بينهما، فالغرب الذي رفض «المبادرة الصينية» لحل الصراع الأوكراني مضى نحو مد النار بـ«أكوام الحطب» التي تضمن استمرارها لأمد طويل، تلك التي مثلتها مذكرة «محكمة الجنايات الدولية»، ففي العرف السياسي الغربي يشير تصنيف دولة ما، أو تنظيم ما، على لوائحه الإرهابية على أنه انعدام لفرص التفاوض معه وإصراره على هزيمته، ومن المؤكد هو أن ما ذهبت إليه نائبة الرئيس الأميركي كامالا هاريس من على منبر «مؤتمر ميونيخ للأمن» يوم 19 شباط الماضي عندما اتهمت الرئيس الروسي بـ«ارتكاب جرائم حرب ضد الإنسانية»، كان مقدمة لصدور مذكرة «محكمة الجنايات الدولية» بعد نحو شهر على تصريحات هاريس سابقة الذكر.

يمكن القول إن الصين بالغت في حذرها، ولربما في ترددها حيال فهم المرامي الغربية تجاه روسيا عشية اندلاع الصراع، الأمر الذي يفسر موقفها، على امتداد عام انصرم، الذي كان أقرب لممارسة سياسة الحياد مائلة الكفة نحو موسكو، لكن عوامل عدة دفعتها عشية دخول الصراع لعامه الثاني لمغادرة ذلك الحذر ومعه ذاك التردد، وفي الذروة منها:

– التصعيد الغربي غير المسبوق في دعم أوكرانيا، في ملمح يشير إلى نسف أي نوع من التفاوض مع روسيا التي يريد الغرب هزيمتها بأي ثمن، والمؤكد أن رؤيا بكين في هذا السياق تقول إن البادئ بروسيا سوف يثني بالصين.

– الانقسام الغربي الحاصل تجاه النظرة إلى طريقة إدارة الصراع الذي يمثله موقف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الداعي إلى التفاوض مع روسيا لأن «حل الصراع لا يمكن له أن يكون عسكرياً»، مع الإشارة إلى أن ذلك الانقسام الغربي كان له نظير داخلي في الولايات المتحدة لكن تصريحات كامالا هاريس آنفة الذكر أشارت إلى رجحان كفة الداعين للتصعيد على نظيرتها عند الذين يقولون بضرورة التفاوض، والراجح هو أن ذلك الانقسام مرشح لأن تزداد مساحته خصوصاً إذا ما اتخذت الصين مواقف أكثر وضوحاً ليضم دولاً عدة داخل القارة الأوروبية مثل إيطاليا ولربما إسبانيا أيضاً.

– «التفلت» من القبضة الأميركية الذي راحت تبديه العديد من الدول المعروفة بانضوائها المزمن تحت «الراية» الأميركية في مؤشر يقول إن تلك الدول لن تتوانى، إذا ما تزايد عصف الريح، عن «الاحتماء» بموانئ أخرى بعيدة عن تلك التي كانت تحتمي بها على امتداد عقود وعقود.

– لعل أوجع العوامل يتمثل في القمة الثلاثية، الأميركية- البريطانية- الأسترالية، التي انعقدت بقاعدة «سان دييغو» الأميركية يوم 13 آذار الجاري وأقرت بدعم أستراليا بغواصات تعمل على الطاقة النووية، وذاك يعني أن الدول الثلاث التي ضمها تحالف «أوكوس» أيلول 2021 قررت دخول عمليات الغرب لبناء قدرات عسكرية نوعية بجوار الصين مرحلة التنفيذ.

في مطلق الأحوال يمكن الجزم أن الصين في عام الحرب الأوكرانية الثاني هي غيرها في العام الأول لتلك الحرب، وما تشير إليه زيارة الرئيس الصيني إلى موسكو هو أن «جنين» التحالف ما بين موسكو وبكين قد دخل مرحلة «التعشيش» فيما نجاح التصاقه بالرحم قد يكون مرتهناً بالمآلات التي ستذهب إليها عوامل التغيير الأربعة سابقة الذكر.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.