دمشق و”الحاجّ سرّ”: طريق الياسمين الطويل

موقع قناة الميادين-

جو غانم:

لم تنقطع صلة الحاج بدمشق أبداً، فدمشق عمود الخيمة التي رفعها عماد ورفاقه السوريون والإيرانيون والفلسطينيون، وفيها ينبض قلب القضية الأقدس، حيث لا يتأخّر “الحاج فلسطين” عن أيّ مكان ينبض فيه قلبها الساكن بين ضلوعه أبداً.

“كلّ شيءٍ له وجهٌ وعلامة. أنا وأنت، الأحياءُ والأموات، كلّ مَن يسير أو يطير. جميعنا نملك وجهاً وعلامة. والعلامة الّلامرئيّة هي وجهٌ أكثر من الوجه المرئيّ. ولَسوفَ تُعرَف مِنْ علامتِكْ”.

هنود المايا

“هذا يُخيفني.. لا يزال يخيفني”

حين تفوّه ضابط الاستخبارات الصهيوني دافيد بركاي بهذه الكلمات، وقد نظر مرتعداً إلى صورة عماد التي ظهرت أمامه فجأة على الشاشة، كان جسد الحاج رضوان، أو الحاج ربيع، أو “الحاج سرّ”، كما كان يحلو لرفيقه عالِم الصواريخ السوريّ الشهيد الدكتور عزيز إسبر أن يُطلق عليه، يرتاح منذ سنوات في “روضة الشهيدين”، تاركاً علامته على أديم الأرض وخدّ السماء، وعلى صفحات الكثير من القلوب المخضّبة بالحب والأمل والطمأنينة، وبالألم والخوف والظلم.

بُعيد عدوان تموز الاسرائيليّ على لبنان، ظهر وليد جنبلاط على إحدى الشاشات اللبنانية قائلاً بضرورة “إسقاط قدسيّة هذه المقاومة”، مصرّاً على ترديد اسم عماد مغنية وربطه بالشام في جملة واحدة لعدة مرّات: “لماذا يزرع عماد مغنية طريق الشام جيئةً وذهاباً؟ ماذا يفعل هناك؟ وإلامَ يُخطّط مع دمشق؟”.

أجزم أنّ “البيك الاشتراكيّ” لم يكن يعرف عن عماد أكثر بكثير ممّا نعرفه نحن الناس العاديين، لكنّ “ويكيليكس” أوضحت لنا الأمر بعد سنوات قليلة. كان جيفري فيلتمان قد وزّع عدّة مليارات من الدولارات في بيروت لهدف محدّد: إسقاط قدسية المقاومة من عيون الجماهير العربية وقلوبها، وتشويه صورتها وصورة رموزها ورجالها، ربطاً بحملةِ أكاذيب وتضليل تمتد إلى سوريا وقيادتها.

كان اسم عماد هو اللغز الذي يُحيّر الجميع. وقد أرادت الاستخبارات الأميركية والإسرائيلية أنْ تُعيد نشره والتذكير به على نطاق واسع في الإعلام، في سياق الحديث عن الويلات التي تحدث وستحدث للبنان واللبنانيين بسببه وبسبب هذه المقاومة وحلفها مع سوريا، وربّما استجداءً لصاحب الاسم ولقيادة المقاومة، في سياق الاستفزاز الذي قد يدفع إلى ردّ يؤدّي إلى معلومةٍ من هنا أو هناك، فقد مرّ ربع قرن على تلك المطاردة المتبادلة الطويلة التي حوّلت عماد إلى “كأسٍ مقدّسة” يريدها الجميع ويعجزون عن الوصول إليها، بينما تترك هي علاماتها أمامهم وخلفهم وحولهم، وهي تطاردهم في كلّ معركة أو عمليّة نوعيّة.

لقد باتوا مقتنعين بأنّه سبب كلّ عذاباتهم منذ أن انطلق العظيم أحمد قصير في رحلته التي غيّرت وجه تاريخنا الحديث، وصولاً إلى مارون الراس ووادي الحجير، ومشهد دبابات “الميركافا” وقد حولّها فتية الحاج رضوان الأشدّاء إلى دمى يلهو فوقها أطفال الجنوب.

شكّلت دمشق حيّزاً مهماً جدّاً وواسعاً من حياة الحاج رضوان ومسيرته المقاومة، فمنها بدأ كلّ شيء أوصلَ إلى تموز، وإلى القنيطرة والبوكمال وغزّة، وإلى “حيث يجب أنْ نكون”. وفيها، ارتاحَ الجسد بعد أنْ أتمَّ رسالته بأمانةٍ منقطعة النظير، فقد وصلها بُعيد الاجتياح الإسرائيلي للبنان مترجماً مع قياديين إيرانيين بدأوا ورشة عمل لا تنتهي مع رفاقهم السوريين، لوضع الخطط لمواجهة العدو في أرض لبنان.

كان المترجم مختلفاً ولمّاحاً وشديد الذكاء – قال القيادي الأمني السوري الراحل اللواء محمد ناصيف – وكان يقترح ويشرح ويضيف إلى كلام الإيرانيين أو السوريين كلاماً جديداً عند قيامه بالترجمة.

يومها، بدأ العصر الجديد الذي أسس فيه مغنية ورفاقه “الجهاد الإسلاميّ” لمواجهة العدو الإسرائيلي، انطلاقاً من لبنان، وتخطيطاً في دمشق، حيث وضُعت اللبنة الأولى لغرفة عمليات ما بات يُسمّى الآن بـ”محور المقاومة”، وحيث كانت المسافات بين مكتب السفير الإيراني في سوريا حينذاك، السيد علي أكبر محتشمي بور، ومكاتب الاجتماعات داخل الأبنية الرسمية وغير الرسمية السورية، تُمثّل طريق الياسمين الدمشقي الجديد الذي بدأ ينتر رائحة المقاومة العطرة على امتداد بلاد الشآم؛ الطريق الّذي سلكه عماد مرات لا تُحصى في تلك السنوات المجيدة.

لقد كان السيد الحازم محتشمي بور سفير الثورة الإيرانيّة إلى جبهات التماس مع العدو في المنطقة؛ تلك الجبهات التي جمعت هؤلاء كلّهم على قلب رجلٍ واحد يرى بوجوب أنْ تشتعل ليحرق لهبها وجه هذا العدو وقلبه بأسرع وقت ممكن، وكان عماد سفير الجنوب اللبناني إلى المكان الذي يجب أنْ تأتي منه الخطّة والعَون، ويأتي العلم والسلاح. كان قلباً ولساناً وذراعاً ومبعوثاً لسيّد حازمٍ آخر قرّر أنّ المقاومة هي الطريق الأوحد إلى الله والحريّة، هو عالِم الدين الرّاحل السيد محمد حسين فضل الله، وكانت دمشق في تلك الأيام، وما تزال، هي مسقط قلب المقاومة الموصول بشرايين هؤلاء جميعاً، وبأوردة الأرض المحتلّة.

لم تنقطع صلة الحاج بدمشق أبداً، فدمشق عمود الخيمة التي رفعها عماد ورفاقه السوريون والإيرانيون والفلسطينيون، وفيها ينبض قلب القضية الأقدس، حيث لا يتأخّر “الحاج فلسطين” عن أيّ مكان ينبض فيه قلبها الساكن بين ضلوعه أبداً.

وهناك قيادات الفصائل الفلسطينية المقاوِمة التي يلتقيها الحاج على الدوام، للتنسيق والتخطيط والتصعيد، وصولاً إلى إيصال السلاح إلى غزّة وتطوير عمليات المقاومة فيها، فمن دمشق – كما قال أكثر من قياديّ فلسطينيّ، بينهم رفيقه القيادي الجهاديّ الراحل رمضان عبد الله شلح – دشّن عماد وقيادات أمنية سورية وفلسطينية عملية نقل السلاح إلى غزّة بعد انسحاب العدو منها، وخطَّط لتغيير كل تكتيكات المقاومة الفلسطينية واستراتيجياتها في الدّاخل، والتي بلغت ذروة جديدة خلال معركة “سيف القدس” الأخيرة، التي يجزم الكثير من المقاومين في الداخل الفلسطيني والمنطقة أنّ بصمات الحاج رضوان كانت واضحة فيها، إلى الدرجة التي كرّست حضوره الطاغي أكثر من أيّ وقتٍ مضى، رغم مرور كل هذه السنين على رحيل الجسد.

وفي دمشق أيضاً، كان عماد جزءاً أساسيّاً من الخليّة التي انكبّت على العمل على تطوير القدرات الصاروخية لسوريا ومحور المقاومة، فقد عرفه العالِمان السوريان الشهيدان نبيل زغيب وعزيز إسبر كرفيقٍ قريبٍ لا يكلّ ولا يتعب، وهو يدفع معهما ومع علماء سوريا وضبّاطها وقيادتها باتجاه إحداث خرق في موازين القوى مع العدو، وخصوصاً على صعيد الدفاع الجويّ، كما رافقه العميد الشهيد محمّد سليمان في رحلة نقل السلاح التي أفضت إلى تحقيق نصرٍ حاسمٍ في حرب تموز التي غيّرت كلّ المعادلات مع العدو، وأكّدت حقيقة دخولنا “زمن الانتصارات”، وكرّست عمليّاً صعود المحور المقاوم.

لقد قيل الكثير عن علاقة الحاج بدمشق، واسترسل العديد من الأصدقاء والأعداء على السواء في الحديث عن المهمات التي كان يقوم بها مع القيادات السورية. بعضها لا يستحقّ الذكر أو الاطّلاع عليه، وبعضها يفتح أبواب عصرٍ كامل أفضى إلى ظهور علامة وجه دمشق على “الكورنيت” في وادي الحجير وغزّة، ووضوح صورة عماد في القصير ودير الزور وحلب والقنيطرة، من خلال رفاقه وأبنائه الذين رووا بدمائهم أرض سوريا، وهم يسيرون على طريق قائدهم، ويسلكون مسارات مشروعه التحرّري جنباً إلى جنب مع إخوتهم في السلاح والهدف؛ ضباط وجنود الجيش العربي السوري.

هنا أيضاً، وعلى امتداد سنوات الحرب على سوريا، يجزم الكثيرون أنَّهم رأوا عماد على امتداد الخريطة السورية، وهو يضع الخطط، ويوجّه المقاتلين، وينسّق مع رفاقه السوريين في غرفة العمليات في دمشق وعلى جبهات القتال. رأوه ينتصر، وسمعوه يدندن أغنيةً فلسطينيّة تتحدّث عن المقاومة والنّصر، ربّما كانت “طالعلَك يا عدوّي طالِع” التي كان يحبّ الاستماع إليها.

يجب أن يكون كلّ هذا الحقد من الأعداء وأدواتهم على الحاج رضوان مفهوماً، وأن يبعث على الفخر والرضا في نفوس المقهورين والمظلومين على امتداد العالَم؛ في نفوسنا نحن الذين كنّا ننتظر القتل في كل ساعة يشتهي فيها العدو قتلنا، نحن الذين تبجّح عدوّنا على مدى سنوات طويلةٍ أنّ باستطاعته احتلال أحد بلداننا بفرقة موسيقية عسكريّة، نحن مَن لا منابر دولية وأممية تهتمّ لحقوقنا وآلامنا، نحن “الأضرار الجانبيّة” التي لا تُذكَر في ألعاب الأمم الطامعة والمتوحشة، نحن الأمّة التي خرج منها جمال عبد الناصر ليقول إننا لسنا عبيداً، فوُصِف بـ”الكلْب” في مجلس عموم الاستعمار في بريطانيا.

كلّ أوصافهم لعماد ونعوتهم يجب أن تدعو إلى الفخر، لأنها تعكس كيف وإلى أيّ مدى أثخنَ رجل واحد ينتمي إلينا وننتمي إليه قلوب عموم قوى القهر والاستعباد والاستعمار: “القاتل” و”السايكوباتي”، كيف لا يكون ذلك، وهو الفرد الذي بقي طوال ليلنا الطويل يقرع على الأبواب بيديه وقلبه وعقله وبندقيّته ليوقظ أمّة بحالها؟ كيف وهو الشخص الواحد الذي تقول عنه مصادر رسمية تتبع لإمبراطوريةٍ رهيبةٍ تقبض على عنق كوكب بأكمله وتشدّ بكلّ ما أوتيت من وحشيّةٍ وطمع، “إنّه أكثر رجل قتل أميركيين على هذا الكوكب”.

هو الرجل الذي قيل أمامه إنّ “المستحيلَ على بُعدِ جيلٍ”، فاحتجّ على مفردة “المستحيل”، ورفضَ أنْ تأتي في السياق عند الحديث عن تحرير فلسطين؛ الرجل الذي قرَّبنا مئة عام من فلسطين، حين رسم لنا الطريق الأكثر جدوى نحو التحرير، وسار بنا وسرنا خلفه، الرجل الذي ترك علامته على امتداد الدروب المؤدية إلى فلسطين؛ علامته الّلامرئية التي يستحيل محوها، كما يستحيل تجاهل وجودها الطاغي.

هل مات عماد، رضوان، ربيع، الحاج فلسطين؟ هل مات “الحاجّ سرّ” حقّاً؟ هل يشعر المظلومون والمقهورون بذاك الغياب الحميم؟ وهل يشعر العدو بهذا الحضور الأليم؟ لقد كان عماد سرّنا الذي نحفظ علامته عن ظهر قلبٍ ولا نعرف وجهه. تلك العلامة لم تغب عنّا لحظة واحدة، بل تزداد في كلّ يومٍ جديد ألقاً وبريقاً ونوراً.

نحن نتحدث الآن عن طريق طهران – بغداد – دمشق – بيروت؛ نتحدث عن نهضة المُستضعفين، نتحدَّث عن العمل على المعركة القريبة على أرض الجليل، وعن الصلاة في القدس خلف القائد والرفيق والأمين. صواريخنا تضرب معاقل المحتل في شرقيّ سوريا، وفي بوادي العراق، وفي هضاب اليمن، وتحلّق طائراتنا المسيّرة فوق رؤوس جنود مذعورين أتوا من مغرب الأرض ليمنعوا دخولنا فصل ربيع هذا الحاج.

كلّ هذا عماد، وكلّه إسبر وزغيب، وهم في كلّ تفصيلٍ صغير منه في دمشق وحلب وغزة والجنوب وجرف الصخر ومأرب؛ هذا الحضور الذي يضجّ في قلوبنا وفي أرواحنا التي علّمها عماد فنون القتال، لا يمكن أنْ يفنى أو ينحسر، لأنّه نهج، ولأنه مسيرة.

إنّه سرّنا ومسيرنا ومصيرنا نحن الفقراء الذين أُريدَ لنا العيش أبد الدهر في عراء الدنيا بلا أسرار، لأنّ هناك من انتهك أسرارنا وكراماتنا وحيواتنا، إلى أنْ حضر عماد، وصار سرّ غضبنا المدوّي الذي فضح الجيوش والدول والإمبراطوريات وأدواتها الرخيصة التي تبكي بين ظهرانينا على ضياع “مجد العبيد” على يد الحاج ورفاقه، ودبّ الرعب في قلوب كلّ أولئك الذين أثروا من عذاباتنا.

صار سرّنا الحميم الذي لا يُفتَضح، ولا يُنتَهك، ولا يغيب عن القلوب، لأنّه شاخصٌ أمام ضمائرنا كعلامةِ حياةٍ كريمة، كحقل ياسمينٍ دمشقيّ مرويّ بماء الحياة، بأزكى الدماء وأغلاها، حقل حريّة يمتدّ من كفرسوسة إلى القدس، وها هي دمشق تلتفت مع عماد باتجاه صدى صوت رفيقه رمضان شلح وتسمعه يقول:

“سنطردهمْ مِنْ إناءِ الزهور وحبلِ الغسيل

سنطردهمْ عن حجارةِ هذا الطريقِ الطّويل

سنطردهم مِنْ هواءِ الجليل”

وإذ بعماد يضرب بيده على صدره، وتقول عنه دمشق:

“وحياتَك سنطردهم”.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.